تساؤلات الفتى داخل القصر الجمهوري!
هل أحس أحدكم بالرغبة في زيارة القصر الجمهوري لبلده؟!
هي رغبة موجودة، وغالباً ما يحلم كل مواطن بلقاء مع رئيس بلده، أما نحن، فقد جعلتنا الحرب والصراع السياسي هذه الأيام نتهيب من أي تفكير يتعلق بمثل هذه الأحلام (!!). ولا أخفيكم، كان لدي الرغبة بلقاء رئيس بلادي منذ زمن طويل، وحتى بزيارة كل الأماكن التي يجلس فيها، وذات يوم، وكنت طفلاً صغيراً بحجم الطابة، حملني أبي على كتفه في سوق الحميدية، وقال لي: انظر هذا هو الرئيس جمال عبد الناصر، ونظرت إلى عبد الناصر وهو في سيارة مكشوفة، بعيني طفل مدهوش، يرى رئيسه يلوح له!
أحداث تلك الليلة من ليالي رمضان الأخيرة عام 1968 استقرت في ذاكرتي، وجعلتني أستعيد تفاصيلها وتداعياتها بين فترة وأخرى، فشهر رمضان المبارك حقيبة مليئة بالذكريات لكل من يعيش أيامه وطقوسه في بلادنا، لكن نكهة تفاصيل تلك الطقوس تثير لهاثنا في كل مراحل حياتنا حتى في المرحلة التي يتراجع فيها اهتمامنا بالذكريات.
تلك الليلة، خرجنا نحن فتيان حارة المؤيد، بعد الإفطار، لنلتقي في المسافة التي تفصل بيوتنا عن ساحة الجسر الأبيض، وكانت الساحة تتزين بأضواء المحلات التجارية الموجودة فيها، والتي تستمر في البيع والشراء حتى الفجر.
كنا أربعة أطفال، وكان عمري في ذلك الوقت أكثر من عشر سنوات، وقد فَتح الحديث أحد الأطفال المشاغبين الذي نقل لنا خبراً مفاده أنهم يوزعون النقود احتفالاً بعيد الفطر في المهاجرين، وسريعاً جذبنا الخبر، وأثارت فضولنا التفاصيل، فمن الذي يوزع النقود، ومن الذي يأخذها؟ ولماذا لا نذهب نحن لننال حصتنا منها؟؟
قال أحمد: لن يعطونا. سيوزعونها على أقاربهم! وقال نذير: نذهب فإذا أعطونا كان بها، وإذا لم يعطونا نرجع ولن نخسر شيئاً! أما فواز الذي جاءنا بالخبر، فقال: إنهم يوزعون النقود كل سنة، وإذا ذهبنا سنأخذ عيدية محرزة.
وثار جدل بيننا، ما لبث أن انتهى إلى قرار جماعي يحمل فكرة صديقنا نذير: سنذهب فإذا أعطونا كان بها، وإذا لم يعطونا نرجع.
كان بقي للعيد يوم أو يومان، والأيام الباقية، في هذه الحالة، يحسمها ظهور هلال شهر رمضان، فربما يكون التوزيع قد انتهى، أو ربما يستمر يوماً آخر، وكان الهلال في صالحنا ولم ينته رمضان.
***
اجتمعنا في الساعة التاسعة صباحاً، وقررنا أن نتوجه بتصميم واضح إلى مكان توزيع النقود، وكان فواز قد أتانا بتفاصيل مهمة، وهي أن التوزيع يتم في القصر الجمهوري في المهاجرين، وهذا ما أثار لغطاً بيننا: فكيف سندخل القصر الجمهوري؟ وهل ستسمح لنا المخابرات بدخوله؟ ثم من يجرؤ على دخوله، والرئيس يداوم هناك من صلاة الصبح !
استغرقت النقاشات ساعة وأكثر، وكدنا نقلع عن هذه الرغبة، ومع ذلك برزت معطيات طريفة لعدم ثنينا عن الذهاب، فقد قال نذير: ربما سيقوم الرئيس بتوزيع المصاري، وربما يمنعون دخول الكبار، ويسمحون لنا نحن الصغار فقط بالدخول..
وأقنعتنا هذه التخمينات بضرورة التوجه إلى هناك، وانطلقنا نحو القصر الجمهوري في المهاجرين.
***
كانت ساحة الجسر الأبيض، كما هي اليوم، ساحة دمشقية مهمة، تلتقي فيها مفارق الطرق، فهناك طريق يتجه إلى ساحة عرنوس فطريق الصالحية، وطريق يصعد إلى العفيف والمهاجرين، وطريق يذهب إلى الشيخ محي الدين، وكانت كل الجهة الشرقية من الساحة تغص ببيوت الطين، وكان ثمة بيوت تتكئ أطرافها على النهر الذي يمر من تحت ساحة الجسر الأبيض.
ركبنا في باص المهاجرين، وكان الطريق إلى هناك طويلاً أكثر مما توقعنا. وخلاله ساد الصمت بيننا. كانت العيون تلتقي دون أن تبوح بما يفكر به أصحابها، وكانت حركة الباص تأخذنا إلى تساؤلات خيالية، من بينها ما فكرت به أنا في هذا الطريق: فماذا لو كان الرئيس هو من يوزع النقود؟ وماذا لو أنه قال لي تعال أنت؟ وراح يسألني عن أسرتي؟!
سيطرت عليّ أوهام كثيرة من بينها أن الرئيس سيعطي كل واحد منا مئة ليرة، فكيف سأصرفها أنا؟ ماذا سأعطي لأبي، وماذا سأعطي لأمي؟ وماذا سأشتري من ملابس، وخلال الطريق حسبت سريعاً ماذا يمكن أن أفعل بنصفها مثلاً: سأدخل كل أفلام السينما التي ستعرض في العيد؟ فثمن بطاقة السينما 55 قرشاً، ويمكن في هذه الحالة أن أشتري موالح وسندويش وبوشار، وبعد العرض يمكن أن أتناول صحناً كاملاً من النابلسية الشهيرة في ساحة الفردوس.. وقلت في نفسي: (سأشتري أيضاً ساعة بعشرين ليرة وبنطالين وقميصين وحذاء ودفاتر جديدة وأقلام للمدرسة..).
أحسست أن حلمي بمئة ليرة يقدمها لي رئيس الدولة سيحل كل مشكلاتي، وربما يحقق لي كل أحلامي، فكيف هي إذاً أحلام الآخرين؟؟!
كانت النظرات تلتقي، لكنها تخفي أفكاراً كثيرة تواردت إلى رؤوسنا فيما نحن نقترب من المكان.. وفجأة ردد معاون السائق العبارة التي أعادتنا من شرودنا: القصر.. مين نازل؟!
وكان علينا أن ننزل لنواجه قدرنا الذي حلمنا به!
***
مشينا قليلاً، ونحن نسأل عن القصر الجمهوري، فإذا هو في الجهة المواجهة يرخي ظلالاً من الهيبة على المكان. عند البوابة الكبيرة التي يتم من خلالها الدخول إليه ثمة غرفتان صغيرتان من الخشب يقف في كل واحدة منهما حارس أنيق يضع شريطاً أبيض على كتفه إشارة إلى مراسم الحرس الجمهوري.
وقفنا على الرصيف المقابل تسيطر علينا حيرة مفاجئة، فكيف سندخل القصر الجمهوري؟ ومن الذي سيخاطب الحارسين المتجهمين عند الباب؟ وهل سنقول للحارسين إننا جئنا من الجسر الأبيض من أجل الحصول على حصة مما توزعونه على الناس؟!