مرارة الحديث عن المرّ! إلى الصديق سعيد قطرية
مرّت الدقائق الأربعون، وأنا أقف إلى جانبه، أنظر إليه فأجده يستلقي ساكناً، مبتسماً، وهو يودع كل الذين جاؤوا سريعاً بعد سماعهم خبر موته.
الجميع لم يصدقوا أنه ميّت، حتى أنا… لذلك اقتربت منه، وهمست له، وكأني أذكّره بشيء ما قلته له:
– لا تخَف، الله معك!
ثم لمست وجهه. كان دافئاً. ارتسمت عليه معالم راحة واضحة، فتابعت الهمس، وأنا أحس أنه يسمعني:
– أرأيت كيف يرتاح الجسم من كل آلامه عند الموت!
أجفانه كانت منسدلة باستسلام، ومن بينها يتسلل ما بقي من وميض عينيه المنطفئ، وكأن بريق الحياة لم يكن خفَت بعد!
***
قبل وفاته، كان صديقي بشار يسألني عن الموت دون كلل:
– ما الذي سيحصل عندما أموت؟!
– هل سأحس بمن حولي؟!
– احكِ لي عن الموت!
– قل كل ما تعرفه، أرجوك!
وكنت أقدر معنى حديثي بالنسبة إليه، فهو ينتظر الموت.. أخذ الموت كل زملائه المرضى المصابين بالمرض ذاته، وهو يعرف أن نهايته أضحت قريبة جداً، وأن كل شيء قد انتهى ولم يعد ثمة أمل!
قلت له:
– الميت سيتحول إلى شيء شفاف. وأتصور أن هذا الشيء هو الروح. وأريد أن أصارحك: لا أحد يعرف. لا أحد يعرف!
بعد لحظة صمت، سألته بعفوية:
– هل تحب الله؟ فردّ وهو يهز رأسه علامة البديهية:
– بالطبع! فقلت:
– ستذهب إلى ملكوته، وهل هناك صعوبة في أن يذهب الكائن إلى ملكوت من يحب؟!
هزّ بشار رأسه، ثم ابتسم، وكأنه ارتاح للفكرة.
***
الابتسامة نفسها ارتسمت على فمه وهو ميّت. لم يصدق كل من شاهده أنه فارق الحياة. واحد يقول إنه نائم، وآخر يقول إنه في حالة إغماء، وثالث يخمن أن توفي مرتاحاً مؤمناً. إلا أن شقيقه سعيد، أخبر الجميع أن نزفاً حاداً في الدماغ هو الذي أدى للوفاة، كما قال الطبيب في المستشفى الذي نقل إليه عندما شكا من ألم شديد في صدره وذراعه.
قلت في نفسي: (أربعون عاماً من العذاب مع المرض لا بد أن تنتهي بابتسامة!). وتذكرته في آخر مرة تحدثنا فيها عن الموت. جلس بجانبي، وقال:
– إيْ نعم، احكِ!
وحكيت له عن الحياة الجميلة، وأنها لو لم تكن تنتهي بالموت، لما أحسسنا بجمالها. وذكّرته بحديث سابق عن الشاعر محمود درويش ربط فيه الحياة بالموت، وجاءت زوجته كوثر، فقدمت لنا القهوة. طلب مني أن أحتسي منها، ووجدت نفسي أرشف من الفنجان، وأستعيد له من ذاكرتي شيئاً من جدارية محمود درويش:
(أيها الموت انتظر!
حتى أعدّ حقيبتي: فرشاة أسناني. وصابوني. وماكنة الحلاقة والكولونيا، الثياب..
هل المناخ هناك معتدل؟ وهل تتبدل الأحوال في الأبدية البيضاء، أم تبقى كما هي في الخريف والشتاء؟ وهل كتاب واحد يكفي لتسليتي مع اللاوقت؟!).
ضحك بشار، وقال بعفوية:
– محمود درويش رائع. جعلني أفكر أن الموت قد يكون شبيهاً بالحياة!
ثم طلب مني أن أشرب القهوة، وكأنه نسي دعوته السابقة، فقلت:
– أنا أشرب القهوة. أنت الذي لا تشرب القهوة!
غابت الضحكة عن وجهه وقال:
– أضع القهوة أمامي، ولا أشربها!
***
لم تكن جنازته قد خرجت بعد عندما جاء شقيقه الثاني خالد، وسألني:
– هل تذكر ماذا قال لك يوم الخميس؟!
عرفت ما الذي يقصده خالد. أجبته:
– طلب مني أن لا أغيب طويلاً عنه. قال: تعال قبل الأحد.. ربما كان يعرف أنه سيموت ليل السبت!!
هز خالد رأسه بحزن، ثم قال:
– ربما!
كان يائساً كما أخبرني . لم تعد الحياة تعني له شيئاً بعد هذا العذاب الطويل. ذكرته بالنبي أيوب، فاحتجّ:
– أيوب كان نبياً، فاحتمل كل الكوارث، وصبر!
– لتتعلم من الأنبياء.
تمايل رأسه بعجز واضح. وقال:
– بدأت نوبة الألم الجديدة!
***
كان بشار يسافر مع حكايات الريح. يوم تأتي المواسم يفرح لها وينتظر غيرها. في كل موسم حكاية من حكايات الماضي. حكايات مفرحة إلى حد ما. الحكايات كانت تنسيه الألم والمرض الذي يتفاقم في جسده وكليتيه اللتين توقفتا عن العمل نهائياً، كان يقول:
– أنا أسافر مع الريح. حكايات الرياح حكايات مجنونة. الجنون مثل الألم والمرض حكاية. السفر مع الريح يحتاج إلى جنّية.
توقف لحظة، ثم استدرك:
– يحتاج إلى ملائكة!
وتردد من جديد، ثم أضاف:
– الملائكة تتزاحم حولنا ولا نراها. تبحث عن الفقراء والمرضى والأيتام والعميان لتساعدهم.
وكنت أقول له:
– اكتب الشعر!
ويضحك:
– لا أعرف..
لم تكن جنازته قد خرجت بعد عندما أحسست أنه يسافر إلى البعيد البعيد فعلاً، فعدتُ أحدقُ في وجهه الهادئ، وقلت:
– مع السلامة يابشار!
وبكيت!
«يتبع»