الممانعة في مواجهة العنف الثقافي
بولس سركو :
جاء مؤتمر الشرق الأوسط في وارسو يومي 13و14 شباط 2019 بقرار أمريكي ليظهر الصورة الذليلة للدول العربية العشر المشاركة: السعودية، مصر، الأردن، الإمارات العربية المتحدة، البحرين، الكويت، قطر، عمان، اليمن، المغرب، التي حضر وزراء خارجيتها إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليظهر تحالف هؤلاء لمواجهة ما يدعون بأنها تهديدات إيرانية وسورية لأمن المنطقة واستقرارها. فعلى الرغم من ابتزاز ترامب واهاناته العلنية لزعامات الدول العربية المشاركة وفرضه الخوة العلنية عليها مقابل الحماية، فقد تسابقت هذه الزعامات على تكرار الرأي الأمريكي والشعارات الأمريكية المرفوعة على واجهة السياسة الخارجية الأمريكية، لسبب بسيط هو استحالة قدرتها على الاستقلال بالرأي وهي تحت وصاية الراعي الأمريكي وفي حالة تبعية مطلقة له.
عكس المؤتمر أيضاً صورة مفاهيم الهيمنة الأمريكية المقلوبة والمستوى المنحط للثقافة المرتبطة بها، فمن جهة فإن سورية وإيران المتهمتين بتهديد أمن المنطقة هما في واقع الأمر معتدى عليهما من قبل الدول ال 63 المشاركة، والتهديد الحقيقي لأمن المنطقة هو من قبل هذه الدول وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ومن جهة ثانية فان تسلل المفاهيم المقلوبة إلى أوساط اجتماعية هشة التفكير يعزز الشروخ الفكرية الحاصلة داخل المجتمع السوري ويشكل خطراً ثقافياً بعيد المدى، فبدلاً من الإدانة الطوعية الوجدانية العامة للمؤتمر وأهدافه وصورة الذل والتطبيع التي رافقته، فإن هذه الأوساط انهمكت في إدانة أفكارالاشتراكية والوطنية والقومية والمقاومة والممانعة وغيرها، وهو ترديد ببغائي ممل مصدره ثقافة الهيمنة ذاتها.
ليس مستغرباً بقدر ما هو مستفز إدارةُ الظهر لحدث يجمع غالبية الدول الشريكة في تدمير بلدنا وقتل شعبنا، للتهكم، بالتزامن مع ذلك، من أفكار حافظت على سيادة بلدنا وقرارها المستقل ومنعتها، أقول ليس مستغرباً لأن قوام هذه الأوساط يتشكل من غير المطلعين على العلوم الاجتماعية، والمتأثرين بالبرامج الحوارية الموجهة لقناتي الجزيرة والعربية وفرانس 24 وغيرها من أدواة دعاية العولمة الأمريكية، وكذلك من المتجاهلين قصداً نظرية التبعية، وهم يكرعون خمرة ما بعد الحداثة التي تحاول إلغاء مفاهيم كالاستعمار والمقاومة والممانعة والسيادة والصراع الطبقي من قاموسها.
هذه الأضداد ليست أصناماً كما يردد البعض، بل هي تكثيف نظري لوقائع ما زالت مفاعيلها قائمة في صلب حياة الإنسان المعاصر، فالبشرية لم تتجاوز صراع الأضداد، البشرية لم تتخلص من الاستعمار حتى تلغي معارفها مفهوم الاستعمار وما يستنهضه من فعل مقاومة وممانعة كما لم تلغٍ الفقر والاستغلال حتى نفخر بجديد لم يعد فيه طبقات اجتماعية، والقانون الدولي لم يتغير بفقراته التي تنص على حق الدول في تقرير مصيرها.
ينظر أنصار العولمة الأمريكية من جانب واحد إلى التطور والتقدم العمراني الذي شهدته دول الخليج العربي التابعة على سبيل المثال نتيجة فائض أرباحها من النفط، لكن أيّاً منهم لا يرى الجوانب المهدومة في علاقات الدول وعجز التابع عن الاستقلال بقراره وهو تحت وصاية المتبوع ولا يكترث لما تخفيه الواجهة العمرانية الخلابة من تهتك للكرامة الوطنية والمصلحة الوطنية، ويعجز هؤلاء عن ربط مفهوم التقدم والتطور بالخطط التنموية والإنتاج الوطني ويتجاهلون أنه إنتاج ممنوع على الدول التابعة التي قرر المتبوع الإبقاء عليها كسوق لتصريف إنتاجه هو، وأن الدول التابعة ممنوعة من تنمية ذاتها إلا بالقدر الذي يخدم مصلحة المتبوع الذي يتحكم بمقدرات تلك الدول وموادها الأولية ومواردها وسياساتها وعلاقاتها ومصيرها بالكامل.
إن أنصار العولمة الأمريكية ومرددي شعاراتها البراقة يقفون إلى جانب خرق القانون الدولي الذي يجرم الاستعمار ويشرع ممانعته ومقاومته ، فالممانعة هي عنوان كرامة الوطن والمواطن، هي واجب أخلاقي انساني رفيع لأنه دفاع عن الحقوق والشرعية ومنجزات الحضارة الإنسانية في مجال المعرفة العلمية العقلية، وعن العدالة والأمن والسلام العالميين، وهي بحث عن التوازن في عالم فقد توازنه، وهي رفض للاستسلام لما يطلق عليه الدكتور عبد الإله بلقزيز مفهوم (العنف الثقافي) الذي يخلق نقيضه، وهو يجيب في كتابه (العولمة والممانعة) عن ماهية الممانعة وإمكانياتها الواقعية مميزاً بين حالة الرفض المطلق للتثاقف التي تتميز بها التيارات الإسلامية المحافظة التي تمارس ممانعة مرضية عاجزة على قاعدة نكوصية، وحالة الانبهار التي يتميز بها تيار المبشرين بالثقافة الغربية، وحالة النقد الجدلي العلمي على قاعدة الندية، فالثقافة في هذه الحالة ليست دعوة رجعية للقطيعة مع العالم الخارجي، بل محاولة إخضاع الثقافة الغربية للمساءلة، فالمعرفة تنمو بالحوار والتبادل الرمزي وفق ما يتطلبه المحيط الواقعي والتاريخي، ويطالب الكاتب المثقفين بالتحرر من عاهتين هما الانكفاء والاغتراب الثقافي واصفاً خطاب الرفضويين بالعصاب وخطاب المنبهرين بالببغائية، ويؤكد ضرورة البدء بإنتاج الثقافة بدلاً من استيرادها مما يشكل منهجاً لممانعة عصرية فعالة ترتبط بالمكان والتاريخ ولا تنفصل عن العالم.