من الصحافة العربية «العدد558»

بيع الوهم للشعب السوري

 

طوال العام ونصف العام الماضيين، والشعب السوري يتلقى الوهم من أطراف عديدة، منها المحلي ، ومنها العربي والدولي. والكل يبيعه الوهم، ويعده بالمن والسلوى وبالخلاص من نظامه القمعي المستبد، ويؤكد أن المساعدات (النوعية) السياسية والعسكرية والإنسانية على الطريق، وهي قاب قوسين أو أدنى من الوصول. ومازال الشعب السوري (في سرر التخدير ينام.. والعام يمر وراء العام) دون أن تصل المساعدات، أو تتحقق الوعود،… أو يقترب من آخر النفق حيث الضوء والفضاء الرحب.

ساهم المجلس الوطني السوري أيضاً في تجارة الوهم هذه، ودخلها من أوسع أبوابها إلى درجة اللامعقول، فقد حرّض الشعب السوري على تبني أقصى درجات التطرف، وأفهمه أن لديه وعوداً جدية بالتدخل الأجنبي السياسي والعسكري، وأن النظام، نتيجة ذلك، على وشك السقوط خلال أسابيع. وأخذ ناشطو المجلس يتبارون في المزايدة والتصريحات غير المسؤولة التي كانت تنم عن جهل سياسي فاضح وعدم خبرة أو شعور بالمسؤولية. واستناداً إلى هذه الوعود لقي المجلس تأييداً من الشعب السوري، ويبدو أن التأييد هو ما كان يهدف إليه وليس خلاص سورية وشعبها.

برر الغرب الأوربي والأمريكي، كما برر الأتراك وغيرهم أسباب تحول قراراتهم إلى وعود ووعودهم إلى وهم، أي برروا تقصيرهم، بأن المعارضة السورية مبعثرة ولم تستطع أن تتحد، كما أن المسلحة منها تضم جناحاً متطرفاً وأصولياً، وبناءً على ذلك تباطؤوا بالمساعدات بانتظار توحيد المعارضة والخلاص من المتطرفين.وقد توحدت معظم فصائل المعارضة السورية تقريباً في ائتلاف سمته (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) على أمل أن تسد ذرائع الغرب وتمهد الطريق للمساعدات الإنسانية والسياسية والعسكرية. وقبيل عقد مؤتمر الدوحة في الأسبوع الماضي والوصول إلى هذا الائتلاف، تلقت المعارضة السورية وعوداً قاطعة من الولايات المتحدة والغرب الأوربي بأنها ستفي بكل التزاماتها إذا تحققت وحدة المعارضة، وأنها ستعترف بهذا الائتلاف ممثلاً وحيداً للشعب السوري، وتسلمه السفارات السورية في الخارج، وربما الأموال السورية، وتتفاوض معه على أن لديه صلاحيات الحكومة، وصولاً إلى إسقاط النظام السوري وإقامة نظام ديمقراطي تعددي تداولي. وقد نفذت المعارضة السورية جميع هذه الطلبات، لكن الغرب لم ينفذ شيئاً جدياً، وعلى الغالب لن ينفذه وسيبيع الوهم من جديد للشعب السوري.

المشكلة أن بيع الوهم هذا نقل الأزمة السورية إلى خارج الحدود، وأصبحت المناقشات حولها ومقترحات حلها تجري في الخارج بمعزل عن الشعب السوري وآرائه ومشاركته، وكل من هذه الجهات يعلم أنه إذا لم يكن الحل في سورية فلن يكون حل أبداً (فالشمس شيء خارج الحدود، والشمس شيء آخر في داخل الحدود).

حسين العودات

(البيان) الإماراتية، 17/11/2012

 

 

غزة كمحطة انتقالية بين عصرين

 

ربما لأن الأمر يتصل بالقضية المقدسة فلسطين، بكل تراثها النضالي العريق، فإن الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة تتخذ سياقاً مختلفاً عما شهدنا من سلوك الإسلام السياسي في أقطار عربية أخرى، ولاسيما حيث تيسر لتنظيم (الإخوان) أساساً وبالشراكة مع تنظيمات إسلامية أخرى، الوصول إلى الحكم أو السيطرة عليه.

وليست مبالغة القول إن النتائج التي ستفضي إليها المواجهة بين تنظيمات المقاومة في غزة، وأكثريتها الساحقة إسلامية التوجه، وبين العدو الإسرائيلي، ستشكل محطة انتقالية بين عصرين: عصر ما قبل الإسلام السياسي حاكماً، والعصر الذي يتولى فيه الإسلام موقع القيادة في كل من مصر منفرداً وتونس (بالشراكة مع قوى أخرى وإن ظلت له القيادة) وليبيا (وإن بشكل عشوائي).

الحرب الإسرائيلية الجديدة على غزة فتحت الباب أمام طور جديد من الصراع العربي – الإسرائيلي.

بداية: مكّنت الشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني، من أن يستعيد زخم مقاومته.

ثم إن المقاومة الباسلة التي أبداها الشعب الفلسطيني في غزة أعادت (القضية) إلى الصدارة وعبر مواجهته الحرب الإسرائيلية الجديدة موحداً، متخطياً الانقسامات التنظيمية، إذ قاتلت (حماس) و(الجهاد الإسلامي) و(الجبهة الشعبية) وسائر المنظمات، موحدة تحت راية فلسطين.

وبالتأكيد فإن هذه الوحدة في المواجهة قد أعادت الاعتبار إلى المقاومة في فلسطين، بعدما كادت تختفي تحت ركام الخلافات على السلطة التي صارت – بذاتها – موضوع الصراع بين رفاق السلاح، بما أراح العدو الإسرائيلي وجعله (يتفرغ) لاستعراض قوته بالحديث اليومي المتكرر عن قدراته الهائلة التي تمكنه من ضرب إيران وتصفية المقاومة في لبنان، فضلاً عن توجيه الإهانات اليومية المذلة لرئيس السلطة الفلسطينية في رام الله في آن  معاً. أما حماس وسائر المنظمات المقاتلة في غزة فقد كانت خطته أن يصفّيَها عبر عمليات اغتيالات مدروسة، وكان العنوان الأول الشهيد أحمد الجعبري.

كانت تلك نقطة التحول في مسار المواجهة، إذ أعطت المقاومة في غزة (مناسبة) شرعية للرد، وبقدر عال من الجهوزية لم يكن يتوقعها العدو الإسرائيلي، خصوصاً وقد استخدمت فيها أنواعاً متطورة من الصواريخ، إن من حيث المدى أو من حيث الفعالية… وهكذا انهمرت صواريخ (فجر) على عدد كبير من المستعمرات الصهيونية، القريبة من (حدود) غزة أو البعيرة وصولاً إلى النقب. بل وتفجر بعضها غير بعيد عن تل أبيب، ولامس بعضها حدود المدينة المقدسة، القدس. وكان واضحاً أن القيادة الإسرائيلية لم تكن تتوقع أن تكون مثل تلك الصواريخ البعيدة المدى والمحملة بطاقة تفجير هائلة قد وصلت إلى المقاومة في غزة، فكان عليها أن تعيد حساباتها… دون أن تتخلى عن ادعاء القدرة على تدمير ذلك القطاع المحاصر والمعزول عن سائر مناطق وطنه فلسطين، كما العالم كله، لا سيما أن معبر رفح يخضع لحسابات مصرية معقدة، لم يخفف منها سقوط حكم مبارك ومجيء إخواني إلى قمة السلطة في القاهرة.

لقد بدلت هذه الصواريخ، الآتية من البعيد البعيد، والتي بُذلت جهود جبارة لتمريرها من مصدرها النائي إلى قيادة المقاومة في غزة، في قواعد اللعبة، جذرياً، مستولدة معادلة جديدة: تضربون غزة فنضرب تل أبيب..

هذا في الميدان العسكري، أما في المجال السياسي فصارت الحسابات أكثر تعقيداً: فلن يستطيع حكم الرئيس الإخواني في القاهرة، وحكومة الإخوان  ولو بالشراكة مع أطراف أخرى في تونس – وبعض الحكومات النفطية التي قفزت إلى تصدر (الربيع العربي) أن يشيحوا بوجوههم عما يحدث لغزة وفيها نتيجة الهجمات بالطيران والصواريخ الإسرائيلية. ولا بد لهذه السلطات المستجدة على الحكم، والتي كانت تأخذ على منسّبي أنفسهم إلى الحركة (القومية) التخاذل في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية والهرب من أي مواجهة مع تل أبيب، ولو على الصعيد الدبلوماسي في الأمم المتحدة.

في أي حال فإن غزة، بجماهيرها ومقاومتها وتحت قيادة حماس المؤتلفة الآن مع مختلف (الفصائل)،  قد حققت نصراً باهراً، يحتاج إلى حماية قادرة ومؤهلة.

إن فلسطين تدخل طوراً جديداً في نضالها من أجل أن تكون لأهلها.

ثم إنه امتحان خطير للإسلاميين، حيث يحكمون منفردين أو بالشراكة، من أجل أن يؤكدوا أنهم مؤهلون لأن يعودوا إلى هذا الميدان الذي غادروه منذ أمد بعيد.

طلال سلمان

(السفير)، 21/11/2012

 

 

سباق الفيلة على سورية

 

معظم المحللين السياسيين لا يستطيعون تحديد مسارات ومآل الأزمة السورية، إذ تأتي كلها في إطار التصورات والاحتمالات. فالبعض يتحدث عن حرب أهلية، تفتت الدولة والمجتمع. فيما يرى البعض الآخر، أن سقوط النظام مسألة وقت، ستفضي بالضرورة إلى الديمقراطية. فيما يتخوف آخرون، من وصول قوى راديكالية إلى الحكم. وهناك من يرى أن النظام سيتجاوز المؤامرة، ويخرج أقوى مما كان! كل هذه الرؤى والتصورات، تقوم على أربعة مرتكزات هي: (الشعب، النظام، المعارضة، الخارج). فهي تتحمل مجتمعةً، مسؤولية استمرار أو انتهاء الصراع. لذلك يجب التعاطي معها بتأن، بغية الوقوف على حقيقة ما يجري، وما يراد له أن يجري، انطلاقاً من سؤال أساسي يتعلق ببداية الحراك، وهو: هل كان الحراك العربي عفوياً أم مخططاً له، من قبل مراكز صنع القرار، في السياسات الاستراتيجية الأمريكية ؟ وإذا كان عفوياً، فهل بقي كذلك! أم أن هذه الأخيرة قد تحكمت في توجيه دفته، ليتوقف في سورية مرحلياً؟ في كلا الاحتمالين ثمة دور فاعل للولايات المتحدة وحلفائها. تأسيساً على ذلك، نحاول معرفة كنه الأزمة، من خلال مقاربة هذه المرتكزات.

والبداية مع الشعب، ذلك الحاضر الغائب عن المصالح الفعلية، لدى النظام والمعارضة والخارج. فهذه الأطراف تتناوله بطريقة طفولية وطوباوية، أقرب للأدبيات السياسية منها إلى العمل السياسي الرصين، مما يوحي بعدم نضجه، إذ الجميع يتحدث باسمه ويتدارى خلفه. فيما الحقيقة المضافة، لا يعدو كونه دافع الضرائب الوحيد لسياسات نخبه. وهنا لا يصح القول:

إذا الشعبُ يوماً أرادَ الحياة

فلا بدّ أن يستجيبَ القدر

 على اعتبار أن شعوبنا تقدم الآخرة على الحياة الدنيا، كما أن كثيراً من الشعوب والقوميات واللغات قد اندثرت عبر التاريخ، لأسباب: ذاتية – داخلية وموضوعية -خارجية. فنجاح الحروب والثورات، وأيضاً الهزائم رهن قياداتها. وفي حال تعذر النصر، تكون التسوية بالمفهوم البراغماتي أفضل الممكن، وهذا ما ينقص المعارضة السورية، حيث يَحضُر التشدد وتغيب العقلانية السياسية.

في المضمون، لم يتغير الخطاب السياسي للائتلاف عن خطاب المجلس الوطني. فالذي تغير هو جرعة الوهم المضافة. وبقليل من التدقيق بكلام الرئيس أوباما بعد إعادة انتخابه، من أنه لا يسعى لحروب جديدة، وأنه سيتجه للداخل، نجد أننا أمام سياسة جديدة، تقوم على قطيعة مع ولايته الأولى. وليس بعيداً عن الولايات المتحدة، ها هي ذي حليفتها تركيا التي طالبت بنقل المجلس الوطني إلى الداخل السوري، تغيب عن مؤتمر الدوحة واجتماع الجامعة! كما يشكو ويحذر رئيسها، من استخدام النظام السوري للأسلحة الكيماوية ضدها، في وقت يضرب فيه الطيران السوري، مدينة رأس العين المتاخمة للحدود التركية! فالأطراف الساعية للسيطرة على منابع الغاز وطرق نقله، ستتعامل في نهاية المطاف مع من يبسط سيطرته. وإلى أن يتعب المحاربون، ستبقى هذه الأطراف تتسابق كالفيلة، بين المكونات الخزفية للمجتمع السوري، حيث لا ترى في سورية سوى دولة تفيض بالعشوائيات والبشر. وعليه يجب هدمها وإعادة بنائها، تحت شعارات إنسانية نبيلة. وهو ما يفسر إحجام المتحاربين، عن ذكر الأرقام الحقيقية للضحايا، والتي تتخطى عشرة أضعاف ما يُعلن عنه، بذريعة رفع المعنويات حتى النصر!

بشير عيسى

(الحياة)، 17/11/2012

العدد 1140 - 22/01/2025