اغتيال بلعيد.. الحاضر الغائب عن «الجزيرة»!

من النادر أن تبخس قناة (الجزيرة) التلفزيونية حق حدث ما أو مسألة مستجدة أو منبوشة من التاريخ في التغطية، أو دون أن تعطيها من الوقت وقتاً قد يتناسب وأهميتها أو يتجاوزها. وهي تفتح الهواء لكل من ترى له علاقة من قريب أو بعيد، أو من يحاذي مسألة تضعها تحت المحرق باحثةً عنه في أقاصي الأرض ملبسةً إياه صفة قد تكون فضفاضة أو ضيقة، يدخل في ذلك اعتبارات لم تعد هذه المحطة قادرة على إخفائها.  

من هنا لا يستطيع المراقب أن يدعي غياب الجزيرة أو تقصيرها عن إعطاء خبر اغتيال القيادي اليساري التونسي شكري بلعيد، أمين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين في تونس، وقتاً جيداً من بثها منذ لحظة الاغتيال في السادس من هذا الشهر وما رافقه من تداعيات من أجل استقراء ما تحمله الأيام من خوف أو آمال. قد يقول قائل: ولكن لقد كانت المحطة موجودة طيلة الوقت ووفرت التغطية للموضوع من مختلف الجوانب. إلا أن مراقباً يسأل نفسه: أيةُ تغطيةٍ تلك التي كانت؟ وهل هو إحضار للقضية بغية تغييبها؟ أم أن المسألة جرت على تلك الشاكلة بسب مباغتة خبر الاغتيال لفريق أخبارها؟ لكن الأحداث تتوالى ويستمر عرض التقارير حول الاغتيال ويعاد بثها ذاتها دون تغيير لتبدو وكأنها خارجة دون تحضير. ويستمر غياب التحضير ليخرج لنا الاغتيال بتلك الصورة التي أظهرته خلف ستارها أو أبعد.

في البدء لن يصدق أحدنا أن المحطة التي حملت حلم شعوب الربيع العربي إلى الفضاء وأدخلتها كل بيت تهفو، أو تتعمد الهفو، عن قضية هزت بلداً ما زال في رحم ربيعه. كما لن يصدق أن تقصيراً قد أدى إلى خروج تقارير مراسل القناة في تونس إلى البث دون صوت مرافق (ما عدا، ويا للصدفة، حديث أحد ممثلي حركة النهضة)، ثم تكرار الخلل عينه أيضاً في اليوم التالي. كما لن تستطيع تلك التقارير إجبارنا على إقناع أنفسنا أن المحطة التي بوسعها إعطاء دروس في المهنية ترتضي خروج تقاريرها على تلك الشاكلة الممسوخة التي تظهر افتقارها للمهارة أو الملاحظة أو غياب التقنية في مشهد يذكرنا بتلفزيوناتنا الوطنية في ثمانينيات أو تسعينيات القرن الماضي.

إنه الحضور من أجل الغياب إذاً، وهو تسليط الضوء من أجل التعتيم وهو استحضارٌ من أجل الجر إلى ما خلف الستارة. ثم الولوج بدهاليز متوازية مع الستارة تعطينا الكثير الكثير عن (المرحلة المقبلة ومخاطرها)، كما يرى المذيع، أو حول (الواقع السياسي والأمني الحالي) كما يقرر. فلا نرى من المأساة إلا القليل ويغيب بلعيد عن الصورة، ويغيب أهله وتغيب دموعهم، ويغيب أنصاره وتغيب قبضاتهم. ثم تغيب صورته عن الصورة ويغيب اسمه عن الصوت أو خلف الدخان المسيل للدموع أو طاولة الوزراء أو خلف تحليلات ما سيأتي، بعد أن قررت المحطة وضعه في الماضي قبل أو يوضع في التراب.

فالمحطة تضحّي بالمهنية لحساب خلق إحساس يبعد المعنى والمغزى. وتضحي بالصدقية فتغازل التيارات الدينية لتبعد إحساس الشبهات عن سكاكينها. وتجول بنا على المنابر أو الساحات قلقةً فتجعلنا نخاف ويستبد بنا الحنين لقمعٍ زرع الأمان مستنقعاً جميلاً للآسنين. وتعود آلات التصوير التابعة لها فتظهر ياقات الشيوخ المتكلفة لتقزِّم ترحرح القطن على جسد اليساريين. وتكتمل الصورة مع وجه الأكاديميين المعممين، لتعتم أو تبهت مع الحاسرين الرأس.

وتنحاز (الجزيرة)، ولم تعد قادرة على إخفاء انحيازها، للتيارات الإسلامية التي برزت بعد انهيار بعض الأنظمة العربية. فترى حركة النهضة تُعطى الحصة الأكبر حين الخوض في الموضوع التونسي. كما ترى حركة الإخوان المسلمين تُعطى الحصة الأكبر حين الخوض في الموضوع المصري. ليحضر إلى الذاكرة تغطيتها للانتخابات عندما خصصت الحصة الأكبر لمرشحي التيارين في البلدين. لذلك لا يأتي العجب حين نرى أن اليسار التونسي كان الغائب الأكبر عن شاشتها، أو الحاضر مقزَّماً رغم العدد الذي فاق المليون والنصف مليون مشارك في تشييع بلعيد. وهي استخدمت لذلك خطة قامت فيها بعرض ساحات شبه فارغة وقت التشييع. وقامت بعرض ساحات أخرى يحتشد فيها أنصار حركة النهضة (المدافعين عن الشرعية)، رغم الشعارات التي أطلقها المشيعون وملأت الأجواء وطالبوا فيها بمحاسبة حركة النهضة لمسؤوليتها عن الاغتيال.

وتتغزل المحطة وتغازل حين تختصم وتخاصم، وتبقى اللعبة مكتملة. هي اللعبة الديمقراطية: الحوار المكتمل، تقابل الأضداد.. تقاسم الزمن، ولا ينقص شيء ولكل عدته. فلتبدأ النقاشات، وما لم يتم تغيير وقائعه على الأرض يتوثب مذيعنا لتغييره. وتسأل نفسك: لماذا غاب بلعيد وهو الحاضر؟ أين أُخفيت السكاكين؟ ومن الذي بارك الطريق وقرأ الفاتحة على نية (هذا الأمر)؟ من هدد..  من توعد؟ من بعث الرسائل؟ ومن رفع السيف؟ ويغيب بلعيد عن المشهد، وغداً ستغيب الثورة عن الصورة، لتعود بنا إلى منابر الجمعة طيعةً تتوعد.

العدد 1140 - 22/01/2025