البطريرك اليازجي: مسيحيو الشرق متجذرون وشركاء في المصير

شهد حفل تنصيب يوحنا العاشر اليازجي بطريركاً على الكرسي الأنطاكي والمشرقي للروم الأرثوذكس في الكنيسة المريمية بدمشق، حضوراً رسمياً وروحياً وشعبياً، ضم ممثلين عن مؤسسات السلطة والدولة في سورية، وممثل حاضرة الفاتيكان، ومفتي الجمهورية، ووزير الأوقاف، وعدداً من العلماء، وبطاركة الكنائس الشرقية والغربية وممثليها في دول المنطقة والعالم، وفي مقدمتهم الكاردينال بشارة الراعي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة.

وتوقف البطريرك اليازجي في كلمته التي ألقاها بالمناسبة عند محاور هامة شملت موقع الكنيسة المشرقية وحضورها ماضياً وحاضراً، ودورها الاجتماعي والوطني، وضرورة التجديد في قوانين الكنيسة كي تواكب العصر وحاجات المؤمنين.. وأهمية وحدة الكنائس وتعزيز حضورها ودورها.

وحول المحور الأول قال اليازجي: (نحن الأنطاكيين كنيسة مشرقية جذورها ضاربة بعمق في منطقتنا وشرقنا العربي، ونحن مع إخوتنا المسلمين أبناء هذه الأرض.. لسنا فقط شركاء في الأرض والمصير فحسب، بل نحن بنينا معاً حضارة هذه البلاد، ومشتركون في الثقافة والتاريخ، وعلينا جميعاً أن نحفظ هذه التركة الغالية التي نحياها في سورية).. فالشراكة كما يراها تتعدى هنا العيش المشترك أو الانتماء والمصير والحضور العددي، لتشمل التجذر في المكان والشراكة الحقيقية في بناء الحضارة المشرقية، ثقافة وإبداعاً وتاريخاً وإرثاً رفيع المكانة في النفوس، وهي تركة غالية تستحق أن تُحفظ وتنمّى.

وأكدت الكلمة في المحور الثاني دور الكنيسة الاجتماعي والوطني، وأن ترعى أبناء المجتمع جميعهم، وأن تهتم بالفقراء وتجعلهم إحدى غايات مؤسسات الكنيسة ونشاطها. كما لفت إلى ضرورة الاهتمام بالشباب والبحث الجدي عن أسباب هجرة أعداد منهم إلى خارج أوطانهم، كي لا يتشردوا فكرياً، ويغرقوا في لا مبالاة خانقة. ودعا إلى إعداد برامج وأساليب رعاية للشباب، لأنهم غنى للكنيسة والمجتمع وسفراؤهما في عالم متسارع التغير.

فالكنيسة ليست لرعية ضيقة أو طائفة، وليست لفئة اجتماعية دون سواها، بل هي لجميع أبناء المجتمع، وهي أوسع من طائفة بكثير، والتركيز على شريحتين واسعتين في الوطن هما المفقرون والشباب، وتبني مطالبهما المحقة، ووضع برامج تدريب وتأهيل لمساعدة أفراد هاتين الشريحتين يعزز حضور الكنيسة وجديتها في أداء رسالة المحبة التي هي شعار وسلاح في آن.

وتناول اليازجي في المحور الثالث موضوعاً دقيقاً يشغل بال المؤسسات الكنسية وسائر المؤسسات الروحية والوطنية، وهو تجديد قوانين الكنيسة، وهو أمر شغل الكنيسة لعقود، ولم تتحقق خطوات جدية فيه، وقال:

إن التقليد الكنسي ليس شيئاً جامداً يتكرر دون وعي، وتقتضي شهادة الكنيسة في هذا العصر أن نميز في الحداثة، والصالح فيها كثير. ولا يكون التجديد بتحديث نصوص وجعلها مفهومة بلغة إنسان اليوم وحسب، بل يكون بتجديد النفس البشرية ومفاهيمها أيضاً، وجعلها ملتصقة بوجه الرب وشاخصة إليه، وحينئذ يتفاعل التحديث البشري مع القلب الإنساني وينجب خلاص الإنسانية، ويكون بأن نحترم أنظمتنا وقوانيننا ونسعى لتحديثها­ إن لزم الأمر­ ونرفع العوائق التي تقف أمام تنفيذها، والعمل الحثيث على تطبيقها، لأن القوانين ليست شرائع جامدة، بل هي تعبير عن حياة الكنيسة.

وتناول المحاور الرابع في كلمة البطريرك اليازجي موضوع وحدة عمل الكنائس، ووحدة العمل العربي، فقال: سنبقى في كنيسة أنطاكية جسر تواصل بين الجميع، داعمين كل قرار يتخذ بإجماع الكنائس، وعاملين من أجل خلاص العالم، ومن أجل إنهاء التباعد الحاصل بين أطرافه، ومن أجل وقف تقهقر العمل المسكوني في الآونة الأخيرة، ومن أجل أن نكون وحدة واحدة.. وسنتابع العمل الدؤوب من أجل إعادة اللحمة بين الكنائس الشرقية منها والغربية. وعرّج على موضوع الهجرة والتهجير، ودعا إلى إزالة الأسباب التي هجّرت مسيحيي العراق ولبنان.

ودعا اليازجي إلى التلاحم بين جميع البلدان العربية وبين سورية، التي لا تنسى في محنتها أخواتها كما كانت دوماً. وأضاف: نحن هنا من على هذا المنبر الشريف في دمشق، لاننسى لبنان وشعبنا هناك، مؤكدين أن كل ما يصيب لبنان أو سورية، يصيبنا في الصميم. ولا ننسى شعبنا في العراق وفلسطين وفي سائر بلدان مشرقنا العربي. ونطلب من الله أن يبعد عنها جميعاً كل مكروه وعنف وخراب، وأن يوصلها إلى السلام والعيش الكريم.

ولفت اليازجي إلى أهمية الوحدة بين أبناء الشعب السوري، ودعا إلى تفعيل مواهب أبنائه كي يخدم بعضهم بعضاً، وأكد أن سورية حكومة وشعباً ستجد باب الخلاص لأزمتها بالحوار والحل السياسي السلمي، لتتبدد غيمة العنف، وتعود سورية إلى الاستقرار والطمأنينة والسلام.

وذكّر اليازجي، بمثل فرنسي سمعه حين اختير مطراناً لأبرشية باريس، يقال لمن كان تائهاً واهتدى إلى الطريق القويم: لقد وجدت طريق دمشق، والمثل مأخوذ من حكاية إيمان بولس الرسول، القائد الروماني الذي أرسل إلى دمشق لمعاقبة المسيحيين، لكنه انتقل وهو في الطريق من الوثنية إلى الإيمان، وغدا الأبرز بين حواريي السيد المسيح.. وهذه إشارة ذكية إلى أن دمشق ماضياً وحاضراً كانت منارة وموئلاً للمعرفة وللكلمة الجامعة، ولوحدة العمل العربي وللدفاع عن القضايا العادلة لشعوب المنطقة.

أبرزت كلمات البطريرك الجديد رؤية منفتحة على الآخر، وتفهماً عميقاً لحاجات الواقع المتأزم، ودعوة صريحة للهيئات الروحية الكنسية كي تندمج في العمل الاجتماعي العام لخير أبناء المجتمع دون استثناء. فما قيمة رسالة المحبة إن لم يتعزز النسيج الاجتماعي كله؟ وما قيمة التعاطف مع الفقراء إذا لم يترجم بأعمال ملموسة ومرئية؟ وظهر جلياً إدراك المسؤول الروحي الأول في الكنيسة الأرثوذكسية التي ظلت تعتدّ طويلاً بثبات قوانينها أن الوقت حان لمواكبة العصر، وأن التجديد والتغيير الاجتماعي لصالح المواطنين جميعهم يحتاج بالتوازي إلى تجديد في قوانين الكنيسة، لأنها ليست شرائع جامدة. وهذا الأمر يمنح المؤسسة الكنسية حيوية وتأثيراً في محيطها، ويعزز هيبتها ودورها المتقدم في الأزمات والمنعطفات الاجتماعية الحادة.

ومقاربة هذه المحاور من أعلى مسؤول كنسي أرثوذكسي يفتح أفقاً أمام الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية العريقة، لأن تتجدد وتتواصل مع محيطها، ويشجع المؤسسات الروحية الإسلامية والمسيحية على أن تواكب متطلبات العصر وحاجات المواطنين، ويفسح في المجال أمام دفع عملية الانتقال والتغيير الديمقراطي المطلوب قدماً في سورية، عبر حل سياسي تشارك فيه قوى المجتمع وفعالياته كلها.

العدد 1140 - 22/01/2025