من الصحافة العربية العدد 568
تمارين على رؤية الشمس
يجب أولاً أن نعترف أنه من النادر أن يختار الإنسان دينه بإرادته الحرة. نحن غالباً ما نولد بدين محدد سلفاً عن طريق الأبوين، ثم نتعلم منذ الطفولة كيف نؤمن بالدين الذي ولدنا عليه ونمارسه. نحن نحتاج إلى الدين في حياتنا، ولقد خلقنا الله بعواطف دينية نشعر براحة عميقة عندما نمارسها، بغض النظر عن الدين الذي نعتنقه.. نحن نعتنق الدين إذن بقلوبنا أولاً، ثم بعد ذلك نفكر فيه بعقولنا، وليس العكس. بمعنى، أننا نؤمن أولاً بعواطفنا، ثم نسخّر عقولنا للبحث عن أدلة تثبت الإيمان. الدين إذن اعتقاد وجداني مطلق وحصري.
إن المؤمنين بأي دين يثقون دائماً أن دينهم هو الوحيد الصحيح، وبقية الأديان على خطأ. المسلمون يرون أن المسيحية واليهودية، قد تم تحريفهما وأن معتنقي الديانتين على ضلال، والمسيحيون يرون أن سيدنا محمد ليس نبياً مرسلاً، أما اليهود فينكرون الإسلام والمسيحية معاً، ويؤمنون أن المسيح الحقيقي لم يظهر بعد.
لا مجال إذن ولا فائدة إطلاقاً من مناقشة أي شخص في دينه، لأنه سيدافع عن معتقداته بضراوة مهما أدى به ذلك إلى خداع للنفس ومغالطات وتناقض. هكذا طبيعة الدين ولا ضرر في ذلك إذا تعلم المواطنون في الدولة الديمقراطية كيف يتقبلون الأديان الأخرى، حتى لو لم يقتنعوا بصحتها. المشكلة تحدث عندما يمارس الإنسان السياسة بعواطفه الدينية. عندئذ لا بد أن يتورط في ما يفعله (الإخوان) الآن. عضو (الإخوان) لا يعتقد أنه يحمل وجهة نظر، وإنما يؤمن بأنه يحمل الحقيقة الوحيدة الصحيحة، وكل ما عداها ضلال. عضو (الإخوان) لا يفكر لكي يصل إلى رأي، وإنما يتلقى الحقيقة جاهزة من مرشده، فيعتنقها ويدافع عنها. الأخطر أن عضو (الإخوان) يؤمن أنه الوحيد الذي يحمل كلمة الله ويمثل الإسلام، وبالتالي فكل من يعارض (الإخوان) في رأيه يسيء إلى الإسلام. جرّب أن تكتب أي نقد لمرشد (الإخوان) على الإنترنت، فسوف تتلقى فوراً وابلاً من الشتائم الفاحشة.. من الغريب أن تصدر عن شخص متدين. لكنك ستتلقى أيضاً نصائح بالامتناع عن نقد المرشد والتوبة إلى الله قبل أن يدركك الموت ويتم إلقاؤك في جهنم. حالة التوحد بين (الإخوان) والإسلام تمنعهم من رؤية أخطائهم وجرائمهم، وتضع كل من يعارضهم في خانة عدو الدين الذي هو في عرفهم بلا حقوق على الإطلاق. ولعل اعتداء (الإخوان) على المعتصمين أمام الاتحادية أقرب دليل على ذلك.
إن (الإخوان) الذين اعتدوا على البنات بكل خسة ووحشية، وقاموا بتعذيب المعتصمين بطريقة بشعة، هم في الوقت نفسه مؤمنون ملتزمون يحرصون على أداء العبادات بكل إخلاص. إن ضميرهم سيؤرقهم بشدة إذا فاتتهم صلاة المغرب، لكنهم يمارسون تعذيب الآخرين بلا أدنى إحساس بالذنب، لأنهم يؤمنون أنهم يمثلون الإسلام ومن يعارضهم يكره الإسلام، وكارهو الإسلام إما كفار أو فاسقون منحلون إباحيون أو عملاء لأجهزة مخابرات غربية تحارب الإسلام بشراسة.
باختصار فإن معارضي (الإخوان) في رأيهم، أعداء للإسلام، فلا مجال للحديث عن حقوقهم، ولا بأس من ضربهم وسحلهم أو حتى قتلهم إن لزم الأمر.. كل هذه تعدّ جرائم إذا ارتكبت ضد (الإخوان المسلمين)، أما إذا ارتكبها (الإخوان) ضد أعداء الإسلام، فتعتبر في عرفهم نوعاً من الجهاد الذي اضطروا إليه.. إن كل الجرائم المسجلة بالصوت والصورة التي ارتكبها (الإخوان) لن يعترفوا بها أبداً، وسوف يستعملون كل طاقتهم من أجل إنكار الحقيقة مهما كانت قاطعة وساطعة.. إنك عندما تطلب من إخواني أن يعترف بجرائم المرشد، تماماً كأنك تطلب من رجل متدين الاعتراف بوجود تناقض في دينه. إن محمد مرسي، الذي بدأ رئيساً منتخباً، تحول إلى ديكتاتور، عطّل القانون ودهسه بقدمه، وفرض على مصر دستوراً لا يعبر عن إرادة المصريين، كما أنه مسؤول عن التعذيب وقتل المتظاهرين كما كان مبارك مسؤولاً عن ذات الجرائم، فحوكم وأُلقي في السجن. كل هذه حقائق واضحة كالشمس يراها الناس جميعاً بوضوح في الشرق والغرب، ولكن لا أمل إطلاقاً في أن يراها (الإخوان) أو يعترفوا بها، لأن اعترافهم بجرائم مرسي سوف يجرح عقيدتهم الدينية التي بنيت على أن كل ما يفعله (الإخوان) هو الإسلام ذاته.
المعركة في مصر الآن ليست بين المعارضة والحكومة وإنما بين مصر كلها و(الإخوان). الديمقراطية هي الحل.
علاء الأسواني
(السفير)، 12/2/2013
جمال البنا: الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة
رحل المفكر الإسلامي جمال البنا عن ثلاثة وتسعين عاماً، ملتحقاً بقافلة المفكرين النهضويين التنويريين العقلانيين، من أمثال محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد، ومحمد أحمد خلف الله وغيرهم، تاركاً وراءه إرثاً من نحو مئة وخمسين كتاباً، كرّس القسم الأساسي منها لمناقشة الفقه الإسلامي، وقراءة النص الديني قراءة عقلانية وتاريخية، مجتهداً في قضايا متعددة بما يخالف رأي الأحزاب والتيارات الدينية، وقبلها رجال الدين.
على غرار أسلافه، ناله من المؤسسة الدينية الرسمية ومن محتكري الإسلام ومفسريه وفق أهوائهم السياسية، نصيب وافر من الاتهام بالارتداد والهرطقة والكفر والإلحاد. ولأنه شقيق مؤسس (الإخوان المسلمين) حسن البنا، ظل بمنأى عن اعتداء (الإخوان) جسدياً عليه، على رغم نقده الدائم لفكرهم ومسلكهم.
سعى البنا إلى تحرير الفقه الإسلامي من أسر التقليد الذي سجنته فيه المؤسسات الدينية ورجالها، وأصدر فتاوى اتسمت بالجرأة.. فرأى أن للمرأة حق الإمامة من الرجال إذا كانت أعلم بالقرآن، وقال إن الحجاب ليس أصلاً من أصول الدين، تالياً ليس فرضاً على المرأة، وأن القرآن الكريم خص به نساء الرسول محمد. كما رأى أن شعر المرأة ليس عورة ليفرض عليه الحجاب أو النقاب. في السياق نفسه، رأى أنه لا يجوز للرجل أن يطلّق زوجته منفرداً، وذلك لأنه تزوج منها بصفة رضائية، مما يوجب رضا الطرفين عن الطلاق أو الانفصال. ورأى أن ترك المرء لدينه أو تحوله إلى دين آخر لا يستوجب حد الردة أو القتل لا إكراه في الدين (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر). وذهب بعيداً في بعض اجتهاداته من قبيل أن التدخين أثناء الصيام لا يبطل الصوم، وخصوصاً لغير القادرين عن الإقلاع عنه.
تناول البنا في مناقشاته الفقهية، الفكر السياسي الإسلامي التقليدي الذي يشكل أساساً تنهل منه التيارات الدينية والسلفية، وخصوصاً منها مقولة (الإسلام دين ودولة). مشى على خطا سلفه الشيخ علي عبد الرازق، الذي كان أثار عاصفة عندما نفى أن يكون الإسلام ديناً ودولة.. فرأى (أن الإسلام دين وأمة وليس ديناً ودولة)، مشدداً على أن نظرية التوحيد بين الدين والدولة إنما وضعها الفقهاء المسلمون في سياق تكوّن الدولة الإسلامية منذ العهود الأولى للإسلام، وكانت بالتوافق مع المؤسسة السياسية التي أرادت من هذه النظرية إعطاء مشروعية لسلطتها المستمدة من الدين ومن الحق الإلهي. لذا شدد في معظم كتبه على ضرورة وضع حدود فاصلة بين الدين والسياسة، في زمن يوظَّف فيه الدين لصالح السياسة ويعطي المشروعية لأنظمة الاستبداد. كما قال في هذا المجال بنفي وجود الدولة الدينية في الإسلام. ودعا إلى تكريس الدولة المدنية وفصل الدين عن السياسة. وذهب إلى نفي حصرية البحث في شؤون الدين على الأزهر ورجاله، بل من حق كل إنسان التعمق في النصوص الدينية وإجراء البحوث فيها استناداً إلى العقل والقراءة التاريخية لهذه النصوص، وأسباب نزولها، والظروف التي صدرت في ظلها، ومدى توافقها مع العصر الراهن وحدود ما هو صالح نأخذ به، وما تقادم عليه الزمن يرمى جانباً.
سعى البنا في تجديده للفكر الإسلامي إلى نزع الأساطير والخرافات التي سجنه فيها الفقهاء على امتداد التاريخ الإسلامي، والتي استخدمتها الأنظمة السياسية في تكريس سلطتها وهيمنتها على المجتمعات العربية والإسلامية. كان يريد أن يواكب الإسلام العصر، وأن يتوافق مع مقتضيات التطور العلمي والتكنولوجي.
لم يكن جمال البنا يوماً على وفاق مع جماعة (الإخوان المسلمين)، وكان دائم النقد لأطروحاتهم، وعندما اندلعت الانتفاضة المصرية، استبشر خيراً بها، لكنه ظل حذراً من سيطرة (الإخوان) عليها، لذا كتب في مدوّنته التي تحمل اسمه على الإنترنت نصوصاً عدة تقرأ اللحظة الثورية المصرية، وفي أحدها المنشور بتاريخ 15 شباط 2012 يقول ناقداً الأداء السياسي ل(الإخوان) بعد الثورة إن (جماعة الإخوان منظمون ومؤمنون، لكن الثورة لم تكن ملكهم أو أنهم قد فكروا بها، بل عندما وجدوها جادة شاركوا فيها، ولكن لديهم داء عدم الإيمان إلا بفكرتهم، ولا يتبعون إلا فرديتهم، ولا يعملون مع الآخرين، وهم الآن يفرضون وصايتهم على الأشياء).
خالد غزال
(النهار)، 5/2/2013