أين هي مصلحة الشعب والوطن؟ أبتغليب منطق العقل والحكمة والحوار.. أم باستمرار العنف والتدمير؟

منذ أن بدأ الحراك الشعبي السلمي في أواسط آذار من عام 2011 مطالباً بإجراءات ذات محتوى ديمقراطي واجتماعي، رأى حزبنا الشيوعي السوري الموحد أن هذا الحراك انطلق من مطامح محقة ومشروعة، وقد نجم أساساً نتيجة تراكم الاستياء من الممارسات اللاديقراطية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المنافية لمصالح الجماهير في السنوات السابقة. ورأى أن مصلحة الوطن تستوجب ملاقاته بالقيام بإصلاحات حقيقية تنقل البلاد إلى مرحلة جديدة نحو دولة ديمقراطية مدنية تعددية. وقد عبّرنا عن موقفنا هذا باستمرار، وخاصة في مؤتمر الحوار الوطني الذي انعقد في تموز ،2011 وكذلك في جميع البيانات والوثائق الصادرة عن الحزب منذ بدء الأزمة الحالية، وحتى قبلها.

 إلا أن التوجه نحو معالجة الأزمة بالأساليب الأمنية من ناحية، وتوغل المجموعات المسلحة في حركة المظاهرات السلمية، تحت ذريعة حمايتها من ناحية أخرى، أدى إلى إجهاض الحركة الشعبية السلمية. وتحول الصراع في سورية إلى صراع عسكري دام ومدمر.. ولم تفلح بعض الإصلاحات التي جاءت متأخرة ومفرغة من محتواها في الحيلولة دون هذا التحول.

 ودخلت على مسار الصراع قوى إقليمية ودولية ذات أهداف ومصالح لا علاقة لها بمطالب الحرية والعدالة والديمقراطية. كما بدت سيطرة الإخوان المسلمين، ولاحقاً الجماعات السلفية والجهادية المدعومة من تلك القوى الخارجية بشتى أشكال الدعم السياسي والمساعدة المالية والعسكرية والإعلامية، واضحة أكثر فأكثر، حتى لمن كان ينكر وجود مجموعات إرهابية مسلحة في البلاد أصلاً. ومارست هذه المجموعات جميع أشكال القتل والذبح والتدمير للبنية التحتية للبلاد والتخريب للملكيات الخاصة والعامة. وجرت مجابهة هذا النشاط الإجرامي والتخريبي بالقوة العسكرية المسلحة التي استخدمت مختلف أنواع الأسلحة بما فيها القصف المدفعي والجوي، مما أدى في كثير من الأحيان إلى سقوط أعداد كبيرة من المدنيين الأبرياء.

 عشرات الألوف من الضحايا، ومئات الألوف من الجرحى ومشوهي الحرب الدائرة، وأكثر من ثلاثة ملايين نازح ومهجر من منازلهم وأحيائهم وقراهم ومدنهم المدمرة، يقاسون التشرد والجوع والبرد ويرزحون تحت ظروف إنسانية وجوية صعبة وسيئة للغاية، سواء داخل القطر أم في الدول المجاورة. أما من بقي في مأواه فيعاني أزمات خانقة من نقص أو فقدان الكثير من الحاجات الأساسية، وخاصة في فصل الشتاء، وبضمنها الخبز والمازوت والغاز والكهرباء، ناهيك بارتفاع جنوني لجميع أسعار المواد الغذائية الضرورية. وقد بلغت قيمة الأضرار المادية التي نزلت بالبلاد مئات المليارات من الليرات السورية حتى الآن. وهي ناجمة أساساً عن حرب المقاطعة والحصار الاقتصادي الخارجي، فضلاً عن البيروقراطية والفساد الداخلي. والأخطر من كل ذلك أن البلاد تكاد تنزلق في انقسام مجتمعي سياسي وأهلي وطائفي لم يسبق له مثيل في تاريخها الحديث، وتضخم دور العوامل الخارجية المؤثرة في معادلة الأزمة السورية لدرجة كاد يصبح فيها العنصر الأكثر حسماً في حلها.

وبعد التصاعد المستمر للحرب الضروس الدامية والمدمرة في البلاد منذ أكثر من واحد وعشرين شهراً، لا يبدو أن حسم الصراع في سورية يمكن أن يتم بالوسائل العنفية والعسكرية، في الأمد القريب على الأقل. فضلاً عن أن أي (إنجاز) قد يتحقق بهذه الطريقة، سيكون الوطن والشعب هو الخاسر الأكبر فيه، بسبب ما سيبذل من المزيد والمزيد من الدماء والضحايا والخراب ثمناً لمثل هذا (الانتصار)، طوال زمن لا يعرف مداه.

واليوم تبرز بعض المؤشرات على توفر القناعة لدى الكثير من القوى الداخلية والإقليمية والدولية بأن الخروج من هذه الكارثة لا يمكن أن يتم إلا عبر حوار وطني شامل، بغية الوصول إلى حل سياسي، يتضمن أولاً وقبل كل شيء وقف العنف بجميع أشكاله، وعودة المهجرين إلى بيوتهم، ومن ثم الذهاب إلى مرحلة انتقالية تؤسس لدولة مدنية ديمقراطية.

ومن المؤكد أن بعض القوى ذات الأهداف والغايات المناوئة لمصلحة سورية، ستستمر في السعي إلى عرقلة التوجه نحو مثل هذا الطريق، وإفشاله بجميع الوسائل، وبضمن ذلك استمرار السعي نحو تدخل عسكري خارجي يطيح بحرية الوطن وسيادته ووحدة أراضيه.

 إلا أن تقديم بوادر حسن النية من السلطة، بوقف القصف الجوي، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين الذين لا علاقة لهم أصلاً بحمل السلاح أو القتل أو التخريب، واتخاذ تدابير ملموسة وعلنية لمعاقبة المسؤولين عن الفساد أو عن أعمال إجرامية ارتكبت من أية جهة كانت، سيساعد على إحباط مساعي القوى المعادية الرامية إلى إفشال الحلول السياسية من جهة، ويشجع قوى المعارضة الوطنية والمخلصة على التوجه بجدية نحو مثل هذه الحلول من جهة أخرى، ويؤدي إلى وضع البلاد على سكة العقل والحكمة لما فيه مصلحة الحفاظ على حرية سورية ووحدتها وطناً وشعباً.

العدد 1140 - 22/01/2025