ضبابية الرؤية السياسية لدى أطراف الأزمة السورية… تعيق الحوار
زادت التجاذبات الإقليمية والدولية الأزمة السورية تعقيداً، ومنعت دوامة العنف وجرائم المجموعات الإرهابية المتزايدة الأطراف السياسية من بلورة رؤية مسؤولة واضحة للدخول في حوار جدي واسع، يفضي إلى حل سياسي للأزمة تتوافق عليه الأطراف الداخلية، وتهيئ الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بهذا الحل عبر توافقاتها غطاء وضمانة له دون إملاء أو إعاقة أو شروط مسبقة.
والنقلة المهمة التي حدثت في الأسابيع الأخيرة، بعيد تسلم وزير الخارجية الأمريكية الجديد جون كيري لمهامه، أن الإدارة الأمريكية وحلفاءها الأوربيين عبروا عن مساندتهم لمهمة الإبراهيمي المبعوث الدولي، وعدلوا عن فكرة الحسم العسكري، ومالوا إلى ضرورة تحقيق حل سياسي للأزمة. وإن تباينت تصريحاتهم أمريكياً وأوربياً بشأن تسليح المعارضة، إذ يتردد الأمريكيون وبعض الأوربيين في مسألة التسليح لأسباب خاصة لا تتصل بمصير السوريين وتخفيف معاناتهم، بل خشية من وصول الأسلحة إلى مجموعات إرهابية موجودة في سورية يمكنها أن تستخدمها خارج سورية أيضاً. أما فرنسا فهي متحمسة لتسليح المعارضة، وهي تحث الأوربيين على إعادة النظر بمسألة حظر الأسلحة إلى المعارضة السورية. وهناك سبب إجرائي يكشف تناقض الدور الغربي التعقيدي للأزمة السورية. ويبرز في تساؤل ساخر لمحلل أوربي قال فيه: هل يكون رفع الحظر الأوربي عن الأسلحة، فيما تبذل جهود للمضي قدماً في الحل السياسي للأزمة السورية، إجراء ملائماً؟
وكان منتظراً من المعارضة السورية في الداخل والخارج أن تنسق جهودها وتبلور رؤيتها السياسية وتصورها لآليات الدخول في الحوار، والانتقال إلى الحل السياسي، بعيد إعلان الرئاسة السورية برنامجها وتكليف الحكومة بمتابعة تنفيذه، وإبداء الاستعداد لمحاورة المعارضين، وبضمنهم المعارضة المسلحة بعد تخليها عن العمل المسلح.
وكان المبعوث الدولي الإبراهيمي قد رحب باستعداد رئيس الائتلاف الوطني السوري معاذ الخطيب محاورة ممثلين عن الحكومة السورية، وطلب الإبراهيمي من الأطراف المؤثرة على (الائتلاف) حثه على تقديم رؤيته للحل السياسي، وعلى الدخول في حوار مباشر مع الحكومة. كما أن وزير الخارجية الروسية سيرجي لافروف وجه دعوة لرئيس الائتلاف ولأطراف سورية معارضة أخرى لزيارة موسكو وإبداء رؤيتها للحل، كي تتمكن الدول المعنية بهذا الحل من مساعدة الفريقين لبدء الحوار المباشر.
والغريب في موقف الدول الغربية وبعض الدول العربية وتركيا من الأزمة أنها تقول بضرورة الحل السياسي، وتمد المعارضة المسلحة بالسلاح والمال، وتبرر جرائمها المروعة وتدميرها المنهجي للبنية التحتية، وتعطيلها لأعمال المواطنين ومصادر عيشهم.. كما أنها تردد تصوراً للحل مقروناً بشرط لا يتوافق مع قواعد القانون الدولي أو وثيقة جنيف أو مبادرة النقاط الست أو مع إرادة السوريين، وهو رحيل أركان النظام.. وهذا التصور المشروط يزيد من تعنت المعارضة المسلحة، ويعزز لديها التوهم بإمكان التدخل العسكري الخارجي، وبتحقيق حسم عسكري لصالحها، ويجعلها لا تكترث بصياغة رؤية سياسية واضحة، مادامت الأوضاع الميدانية بحسب تقديرها متسارعة التغير.
والمتغير الأخير في التصريحات بشأن الأزمة السورية أن الإبراهيمي قابل ممثلي الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وقابل الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي، واقترح بعد لقاءاته هذه أن يجري حوار مباشر بين الحكومة السورية والمعارضة في مقر الأمم المتحدة. وهو اقتراح ملتبس يبقي دوامة العنف ويمنح أولئك الذين يمدون المعارضة بالسلاح وقتاً أطول لتمرير الأسلحة والمقاتلين، ويبقي محنة النازحين ومعاناة الشعب السوري دون معالجة.
وستكون موسكو في الأيام القادمة محطة للقاءات بين وزير الخارجية لافروف وأطراف سورية وعربية وغربية، من بينها نبيل العربي، الأمين العام للجامعة العربية، وممثلو أربع دول عربية، ووزير الخارجية والمغتربين السوري وليد المعلم، ومعاذ الخطيب، رئيس الائتلاف الوطني، والأمين العام لحلف الناتو، لتدارس سبل وقف العنف وبدء حوار بين الحكومة والمعارضة. وتقف موسكو منذ بداية الأزمة على مسافة واحدة من أطراف الأزمة، وتحاور الجميع، بينما اتخذ الغربيون موقفاً منحازاً، واستخدموا لغة العقوبات الاقتصادية والتهديد والتدخل المباشر في الشأن الداخلي السوري، وعطلوا تنفيذ وثيقة جنيف، إضافة على تسليح المجموعات الإرهابية ودعمها المباشر لوجستياً واستخبارياً.
ونعتقد أن اقتراح الإبراهيمي بإجراء حوار في الأمم المتحدة لا يعدو أن يكون محاولة لاختبار النوايا، وانتظاراً لما تسفر عنه اللقاءات الدولية والإقليمية من نتائج تتصل بالأزمة السورية. وقد عبر في الشهور الماضية عن عدم تفاؤله بقرب التوصل إلى حل، وشكا من صعوبة المهمة وتعقيد الأزمة، وأن الأمم المتحدة لن تكون مظلة مساعدة لدفع الأطراف نحو حل يتوافق عليه السوريون، بل ستكون، بحسب القوى المؤثرة عليها، غطاء لفرض إملاءات أو لتمرير ما يجيز التدخل الخارجي الذي رفضه السوريون، ورفضته المعارضات السلمية جميعها.
ونرى أن الضبابية مازالت تحكم الرؤية السياسية لدى أطراف الأزمة السورية، وتؤخر صدور مواقف واضحة واستعدادات للدخول في الحوار الجدي، أو بلورة آليات لردم الهوة بين المواقف والدخول في المرحلة الانتقالية، ويبدو أن غياب الإرث الحواري لعقود طويلة أفسح في المجال لغلبة الشعارات والخطابة البلاغية والتطلب المسبق والمشروط، وغابت الرؤى الواقعية المعمقة، والقدرة على المراجعة والمرونة الضرورية للخروج من الأزمات، وحلت محلها اليقينيات الساذجة والأوهام، والفصام السياسي الذي لا يميز بين مصلحة الشعب السوري وسيادة الدولة واستقلال قرارها، وبين النزعة التدميرية والانتقامية العمياء.
فهل تخرج أطراف الأزمة من هذه الضبابية المعطلة وتملك شجاعة الدخول في الحوار الوطني الواسع على أرض سورية التي يعلنون أنهم يحبونها؟ أم أن التعقيد سيظل سيد الموقف؟