أمريكا ضد الإرهاب.. من يصدّق؟!

طرحت استراتيجية إدارة الأزمة في سورية التي اتبعتها الإدارة الأمريكية الكثير من علامات الاستفهام لدى جميع المراقبين، وجعلتهم يتساءلون عن الهدف النهائي الذي تسعى واشنطن لتحقيقه من خلال التحركات التي تقوم بها. فالبيت الأبيض الذي وضع الكثير من الخطوط الحمراء التي تجعل من يتجاوزها في مرمى النيران الأمريكية وموضع العداء الشخصي له، تراجع عنها فيما بعد باحثاً عن حلول دبلوماسية لمعالجة خروق (الخطوط الحمر) التي حددها خلال الأزمة السورية.

خلال هذه المدة، كانت كرة ثلج الأزمة السورية تتدحرج وتبدأ بتهديد الأمن الدولي، بدءاً من سيطرة التنظيم الإرهابي (داعش) على أجزاء من سورية والعراق، مروراً بسيطرة فصائل (المعارضة المعتدلة) السورية أشقاء (داعش) على مدينة عرسال اللبنانية وارتكابها جرائم وحشية بحق أفراد الجيش اللبناني الشقيق وتهديدها للسلم الأهلي في لبنان، إلى قيام أفراد هذا التنظيم باختطاف أفراد من جنود الأمم المتحدة المكلفين بمراقبة وقف إطلاق النار على الحدود السورية – الإسرائيلية.

وبدأت الدول التي قدمت الدعم البشري والمالي والعسكري تتخوف من موجة العنف الارتدادية التي ستضربها. فأوربا تتخوف من الهجرة المعاكسة للإرهابيين من المنطقة، والأردن الذي بدا أن وجوده مهدد نتيجة اتجاه قطاعات واسعة من أبنائه لاعتناق أفكار السلفية الجهادية. بينما اكتشف العالم أن العقيدة الوهابية التي رعتها وتبنتها السعودية لا تختلف إلا بتفاصيل صغيرة عن العقيدة التي تُحرك (داعش) والنصرة وباقي (المعارضة المعتدلة) السورية، والتي إن حسمت لأمر لصالحها في سورية ستكون مشيخات الخليج هدفها التالي. أما أنقرة، بعد لغة التهديد والوعيد ومحاولتها اللعب بمكونات النسيج الاجتماعي في سورية، فقد اكتشفت أن الخطوة التمهيدية التي بدأتها في الشمال السوري قد تنتهي بإعادة رسم حدود الدولة التركية ذاتها، فاللغة العنصرية والطائفية التي استعملتها تركت أثرها البالغ على فئات كثيرة من المجتمع التركي، وتشجيعها المستمرة للمتطرفين في سورية سيجعل خيار السلاح هو الوحيد لهذه الفئات كي تأخذ حقوقها السياسية والدينية والثقافية من أحفاد السلاجقة والعثمانيين.

أثناء ذلك، ارتكبت هذه المجموعات جرائم ضد الإنسانية (إبادة جماعية – تهجير قسري – اغتصاب وسبي نساء وبيعهن في سوق النخاسة)، وواشنطن ساكنة لا تقوم بأي حركة. لكن ما إن بدأت طلائع (داعش) تقترب من حدود جوهرة البيت الأبيض ولؤلؤته (أربيل) حتى انتفض المارد الأمريكي وبدأ يرغي ويزبد، مهدِّداً ومتوعِّداً بملاحقة هذا التنظيم وإبادته مهما كلفه ذلك. وبدأت الإدارة الأمريكية تتحرك من أجل إقامة تحالف لمواجهة الوحش الذي اسمه (داعش).

المعروف أن واشنطن عرقلت على مدى سنوات طويلة وضع تعريف واضح للإرهاب، وغضّت النظر عن الإجرام الذي تُمارسه دول ومنظمات، إذا كان يصبّ في مصلحتها ويُمكن استثماره والبناء عليه، وإذا كان لا يُهدد مصالحها الاستراتيجية أو يُسبب لها الإحراج داخل الولايات المتحدة. وكان هو الشرط الذي وضعته الإدارة الأمريكية لأجهزة مخابرات عربية وإقليمية تدور في فلكها وتأتمر بأمرها، رعت ودعمت ومولت (داعش وأخواتها). لكن يبدو أن بعض هذه الأجهزة لم تستوعب الطلب الأمريكي، وحرّكت هذا الجماعات كي تُحقق أهدافاً خاصةً بها. وإلا فمن غير المفهوم كيف لمنظمات تُوصف بالإجرام والإرهاب أن تأخذ كل هذا الوقت من الجدل والنقاش داخل أروقة واشنطن وغرف أجهزة مخابراتها؟ وكيف تحرك مجلس النواب والشيوخ في واشنطن لإقرار خطة البيت الأبيض في (القضاء) على خطر هذه التنظيمات بهذه السرعة الفائقة؟!

خطة مكافحة الإرهاب هذه والحلف الذي أُنشئ من أجل تنفيذها، يطرحان الكثير من علامات الاستفهام حول جدواها والهدف النهائي منها. فخطة واشنطن تقوم على الخطوط العريضة التالي:

– حدد البيت الأبيض العدو على أنه (داعش) فقط وتجاهل باقي التنظيمات الإرهابية، وعيّن مسرح العمليات القتالية بحدود سورية والعراق.

– الخطة العسكرية للمجابهة تقوم على الإسناد الجوي من قِبل الولايات المتحدة، بينما تقوم القوات المسلحة العراقية والبشمركة الكردية وفصائل (المعارضة المعتدلة) السورية بالواجبات القتالية على الأرض.

– تقوم واشنطن بتقديم الدعم والتدريب اللازم للقوات العراقية عن طريق المستشارين العسكريين في بغداد. وستتكفل بتدريب خمسة آلاف مقاتل من (المعارضة المعتدلة) السورية على الأرضي السعودية، دون أن تحدد ما هو معيار الاعتدال في القاموس الأمريكي، وهل يشمل هذا المفهوم آكلي الأكباد وقاطعي الرؤوس؟

كل ذلك أدى إلى حدوث تباينات كبرى في التحالف، فمصر تُصّر على توسيع مفهوم التنظيمات الإرهابية ليشمل الإخوان المسلمين. دول الخليج تُريد تعميم مفهوم الاعتدال على النصرة وأخواتها لأنهم رأس الحربة الخليجية في مشروع إسقاط الدولة السورية، ومن أجل ذلك بدأت هذه التنظيمات بمغازلة إسرائيل والتنسيق معها على جبهة القنيطرة السورية. تركيا ترفض القيام بأي عمل عسكري ضد (داعش) حتى هذه اللحظة وسط تساؤلات عن عدم قيام هذا التنظيم بتفجير ضريح سليمان شاه في سورية مع أنه دمّر كنائس ومساجد وأضرحة ومقامات في سورية والعراق، وهل هناك تنسيق بينهما وخصوصاً بعد الهجوم الأخير الذي شنّه هذا التنظيم على مدينة تل أبيض السورية واحتلاله للعديد من القرى التي يسكنها المواطنون الأكراد السوريون وسط مخاوف من ارتكاب (داعش) للمجازر بحق هؤلاء الأبرياء. الدول الغربية ترفض القيام بأي عمل عسكري داخل الأراضي السورية بالتنسيق مع دمشق، مع قيام برلين بتسليح مقاتلي البشمركة بالسلاح الثقيل والمتوسط وبدء فرنسا بغاراتها الجوية على مواقع (داعش) في العراق.

هذا التحالف تشكّل في سياق عودة أجواء الحرب الباردة لتُخيّم على العلاقات الدولية، فميزان القوى الاستراتيجي في العالم بدأ يميل ضد رغبات واشنطن، فهي فشلت في وقف التمدد الروسي الذي نجح بكسر أحادية القطب الذي تحكّم في صناعة القرار الدولي لعقدين من الزمن، وفشلت في وقف البرنامج النووي الإيراني واحتواء طهران، وتبدو عاجزة عن مقارعة التنين الصيني الصاعد، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي لا تزال ترخي بظلالها على واشنطن. ومن أجل ذلك قررت واشنطن للعودة إلى مخططات أيزنهاور ومشروع دالاس التي أقرت إحاطة موسكو بحزام من المآذن والصواريخ لمحاصرة المد الشيوعي آنذاك، وهي حين تُقرر وضع يدها في يد تنظيمات الإسلام السياسي تعمل على ضرب شياطين البغدادي بملائكة القاعدة، وتُشعل نار الصراع السُنّي – الشيعي كي تُحجّم النفوذ الإيراني، وتستخدم البعبع الأخضر لإخافة التنين الصيني والقيصر الروسي. في الوقت الذي تقوم به بإعادة رسم حدود الشرق الأوسط بالحديد والنار، كي تكون تل أبيب هي القبلة لجميع الدول التي قد تنشأ إن نجح هذا المشروع.

الدول الكبرى لا تغيّر مخططاتها بسهولة، ولكنها قد تغيّر طرق تنفيذها عن طريقين: الاقتراب المباشر من الهدف أو الاقتراب غير المباشر، مع بقاء الهدف النهائي واضحاً في الحالتين أمام منفّذي هذه المخططات، وإن أخذتهم تضاريس الجغرافيا إلى أعالي الجبال وقلب الأدغال وغياهب الصحراء حيث يتم التخلص من الأدلاء والمرافقين غير المرغوب بهم.

الروس بوصفهم لاعبين ماهرين للشطرنج يُدركون أن الغبي هو من يترك نفسه للانقياد إلى حركة رعناء نتيجة اليأس، وبأعصابهم من الفولاذ وتضحياتهم الكبرى حطموا تحالفين دوليين أرادا تدميرهما عِبر التاريخ، الجيش الكبير لنابليون في القرن التاسع عشر وقوات الرايخ الثالث وحلفاؤه في الحرب العالمية الثانية ولن يكون مصير هذا التحالف مخالفاً لمصير سابقيه. فالتحالف الذي تؤسسه موسكو يضم جميع المتضررين من هيمنة القطب الأمريكي، والرجعية العالمية التي استبدت بالبشر وصادرت طموحاتهم وأحلامهم، وهؤلاء قرروا أن الأوان قد آن كي يضعوا حداً لهذه القوى التي أعاقت حركة الشعوب نحو تحقيق الحياة الحرة الكريمة.

العدد 1140 - 22/01/2025