طريق الإرهابيين مسدود
شهدت دمشق في الأيام الأخيرة موجة جديدة من العنف الدموي الذي أصاب المدنيين من أطفال ونساء ورجال، في مختلف أنحاء العاصمة دمشق وبعض ضواحيها، فقتل العشرات وجرح المئات منهم، وذلك باستخدام سلاح الهاون العشوائي وأسلحة أخرى غاشمة لا تعرف ضحاياها، ولا يهمّ مطلقيها من يستهدفون، طفلاً كان أم مريضاً أم رجلاً مسناً أم حافلة مكتظة بالركاب، أو مدرسة أو مستشفى، فهي أعمال في غاية التجرد من الإنسانية، ولا تحقق شيئاً سوى تأكيد الإفلاس السياسي والأخلاقي لمرتكبيها. إنه الإرهاب الذي يستهدف إرباك الوضع الداخلي وترويع السكان وإثارة البلبلة والذعر بينهم، والحيلولة دون ممارستهم لحياتهم الطبيعية، وهي في الوقت نفسه انتقام من مدينة دمشق التي رفضتهم ورفضت الانجرار وراء أهدافهم ومخططاتهم التخريبية.
وبواعث هذه الأعمال تبدو أكثر وضوحاً عند التطرق إلى الخلفية السياسية التي تحيط بها:
1- إن التراجع الأمريكي الاضطراري عن تنفيذ العدوان الذي لوحت به كثيراً على سورية، قد خلق مناخاً دولياً جديداً في المنطقة وفي العالم، يقوم على استحالة انفراد دولة ما في تقرير مصائر البشرية، وأصبح لزاماً على الولايات المتحدة أن تدرك، وأن تأخذ في حسبانها، حجم التبدلات العميقة في موازين القوى في العالم.
2- إن هذا التراجع قد انعكس على الخيارات المتاحة لحل الأزمة السورية، من حيث استبعاد الخيار العسكري، وترجيح كفة الحل السياسي عبر التوجه نحو جنيف ،2 بالتعاون مع روسيا والصين.
3- التبدلات الهامة في ميزان القوى الداخلي السوري لصالح الجيش العربي السوري، في المعركة التي يخوضها ضد الإرهاب الذي استفحل لرفع معنويات (مجاهديه).
4- التناقضات الحادة التي بلغت درجة القتال المسلح بين الفصائل الإرهابية نفسها، التي وصلت حد التصفيات الجسدية، وحصول تبدلات في ولاءاتها للقوى الداعمة لها، ومنها السعودية وتركيا وفرنسا إلى حد معين.
5- تفكك التحالف الأوربي- الأمريكي، والتمرد الذي قامت به معظم الدول الأوربية ضد السياسة الأمريكية التي لا تفكر إلا بمصالحها الذاتية بعيداً عن حلفائها وعملائها.
6- ازدياد الوعي العالمي لمخاطر الانتشار العالمي الواسع النطاق للإرهاب، بعد الكشف عن الأعداد الكبيرة من الإرهابيين الدوليين الذين تدفقوا إلى سورية، باعتبارها الساحة الجهادية الأساسية الآن، والخوف المتزايد في العالم من تنامي مخطط إقامة دولة دينية ذات طابع عالمي انطلاقاً من سورية.
7- التغير الملحوظ في الموقف العربي، بعد سقوط مشروع الإخوان المسلمين في مصر، والذي سيؤدي إلى مزيد من الهزائم لهذا المشروع، خاصة في تركيا وتونس والأردن.
8- رسوخ التعاون بين سورية وكل من إيران وروسيا في جميع المجالات، وهو العنصر الرئيسي في تغير ميزان القوى إقليمياً.
9- التقارب الدولي- الإيراني بشأن الملف النووي الإيراني، وبروز دلائل على إمكان التوصل إلى اتفاق يرضي كل الأطراف، الأمر الذي سيعكس نفسه إيجاباً على العلاقات الإيرانية العربية، وقطع الطريق على إمكان تفجّر نزاع في المنطقة على أساس مذهبي.
في ظل هذه المتغيرات جميعاً، اشتدت الجهود لعقد المؤتمر الدولي للسلام في سورية، على أساس مبادئ جنيف ،1 وتصطدم هذه المسألة بعدة عقبات أهمها: من يمثل المعارضة في المؤتمر؟
إن الإدارة الأمريكية تقف الآن في موقف محرج للغاية، فهي لم تعد قادرة عن التراجع عن فكرة المؤتمر الدولي هذا، وهي ليست قادرة- حتى الآن- على إقناع معظم قوى المعارضة الخارجية، خاصة المسلح منها، بالاشتراك في المؤتمر، وستلجأ على الأرجح إلى استعمال سلطتها على هذه المعارضات لتسمية ممثليها قسراً، وقد لا تنجح في كلا الاحتمالين، وعندئذ قد تعود المنطقة إلى المربع الأول. إن سورية بقواها الوطنية المعارضة وغير المعارضة، مجمعة على التوجه إلى مؤتمر جنيف 2 برغبة واضحة في التوصل إلى حلول تؤمن تحقيق حل سياسي سلمي يطرد المرتزقة الأجانب الذي يعيثون في البلاد قتلاً ووحشية، ووقف العنف بكل أشكاله وصوره، بدءاً بوقف دعم المجموعات الإرهابية، ويترك للسوريين المشاركين في المؤتمر فرصة حل المشاكل الداخلية بأنفسهم، وإجراء التغييرات الكفيلة بانتقال سورية انتقالاً سلمياً نحو رحاب المجتمع الديمقراطي التعددي والتقدمي، الذي يجب البدء بتنفيذ الخطوات التمهيدية له منذ الآن، وذلك بتصحيح الأوضاع الداخلية، وضبط السوق، وإيقاف فلتان الأسعار، ومحاربة الفساد وتجار الأزمات وأثرياء الحرب، والإفراج عن معتقلي الرأي السياسي، والانفتاح نحو المعارضة الوطنية التي وقفت ضد العدوان على سورية، وتطبيق أحكام الدستور بشأنهم، والتصدي للتجاوزات التي يعانيها المواطنون، وترسيخ أسس الحياة الديمقراطية، وإعادة الثقة للمواطنين. بهذا تتصلب الجبهة الداخلية في مواجهة الإرهاب والإرهابيين، فلا مكان له ولهم في مجتمعنا.