أزمة الفن بين الحداثة وما بعد الحداثة
ماهو الفن؟
سؤال يستحضر الكثير الكثير من الإجابات الجاهزة والدراسات المعمقة لمراحل مختلفة من تطور الوعي الإنساني الحضاري والمعرفي والاجتماعي والتكنولوجي، ولعل أحداً لم يستطع حتى هذه اللحظة أن يعطي تعريفاً واضحاً أو شاملاً يمكن من خلاله تبيان الدور الوظيفي للفن بمختلف مراحل تطوره، وربط الفن في الوقت نفسه كحالة إنسانية بمختلف الظواهر المجتمعية.
فهل الفن هو حالة فردية تتفتق عنها ذات الفنان؟ أم أن الفن من خلال مبدعيه هو نتاج إنساني جمعي؟ أم هو التعبير الأسمى عن وعي الإنسان لواقعه؟ أم هو وسيلة تعبير عن عالم الأفكار اللامحدود والانفعالات الحادة للذّات الإنسانية في صراعها مع المجتمع والطبيعة؟. كل هذه التساؤلات هي تساؤلات مشروعة، ولقد وجد الفن خلال مسيرته الطويلة التي بدأت منذ بداية البشرية الكثير من المساهمات والتجارب التي ارتقت بالوعي الإنساني للفن إلى ما هو عليه الآن.
إن إيجاد تعريف محدد للفن يبدو مسألة معقدة جداً وغير مجدية، فالفن هو حالة إنسانية متطورة باستمرار، وفي كل يوم نجد إضافة جديدة ترتقي بمفهوم الفن بشكل عام، والصورة الفنية بشكل خاص، إلى بعد آخر. غير أن المهم حقيقة هو دراسة تطور الفن ومجمل الظواهر الفنية التي ظهرت خلال مراحله المختلفة، ومدى ارتباطها بالواقع الإنساني الذي جاءت لتعبر عنه، خاصة في هذه المرحلة التي كثر فيها الحديث، لا عن نهاية الفن فقط، بل عن موت الفلسفة ونهاية التاريخ وفناء العالم.
فهل شارف الفن، حقيقةً، على نهايته؟ وهل أُفرغ من محتواه ومضمونه؟
إن العودة بالتاريخ إلى الوراء تبين أن حالات مماثلة قد ظهرت، وأن الفن قد شهد انتكاسات كبيرة، إلا أن جميع الباحثين أجمعوا على أن أزمة الفن الحالية هي الأكثر إشكالية، وهي جاءت كجزء من انزلاق عالم الفكر الأوسع نطاقاً، في إحساس مفاده أن التقدم والجمال والتفاؤل والأصالة الحقيقية…أمور لم تعد ممكنة.
ولإدراك مدى الانقلاب الكبير في المعاير الجمالية بين القرن السادس عشر والقرن العشرين يكفي أن نستعرض أسماء فناني كل عصر، لنجد أن موناليزا دافنشي حل محلها موناليزا – بيكاسو،التكعيبية ذات العيون الخالية من أيما تعبير، وعوالم فيرمير الغنية حلّت محلّها سوريالية سلفادور دالي التي يندمج فيها الواقع مع الأحلام الذاتية، وأناقة لوحات أنجلو حلّ محلها نساء ورجال إدوارد هابر، الباردة والعليلة وغير المتناغمة، وإشراقات رامبرانت حلّت محلها التناسخات الميكانيكية المبتذلة في لوحات أندي وورهل.
إن هذا الانحدار إن صح التعبير يعود إلى جملة من العوامل تتلخص فيما يلي:
1. ظهور نظريات فلسفية، من نحو التشكيكية والعقلانية، قد أفضى بكثيرين إلى فقدان الثقة بقدراتهم الإدراكية ممثلة بملكة التصور والعقل. أما تطور النظريات العلمية كنظرية التطور والإنتروبيا ، فقد اجتلبت معها تفسيرات تشاؤمية للطبيعة البشرية ولمصير العالم.
2. إن انتشار الليبرالية والأسواق الحرة حدا بخصومهما في اليسار السياسي، الذين كان جلّهم أعضاء في حركة الفن الطليعي، إلى رؤية التطورات السياسية سلسلة من خيبات أمل عميقة.
3. أدت الثورات التكنولوجية، التي حفزها توحد العلم والرأسمالية، بكثيرين، إلى استشراف مستقبل تصبح البشرية فيه منزوعة الإنسانية ومدمرة بالماكينات نفسها التي كان يفترض أن تحسّن نوعهم البشري.
و مع الانعطاف إلى القرن العشرين، أصبح الإحساس بعدم الاستقرار، الذي شهده عالم الفكر في القرن التاسع عشر، قلقاً وشديد التأزم. وقد استجاب الفنانون متحرّين في أعمالهم عن الافتراضات الضمنية لعالم بدا فيه أن كلّاً من العقل، النظام، اليقين، الكرامة، والتفاؤل قد اختفى تماماً.