جوزيبي أميرلمبدوزا

 قليلة هي الأعمال الأدبية التي تظهر بعد موت أصحابها فتخلدهم وتخلد أدبهم، وهم ما كانوا في حياتهم سوى محبين للأدب والثقافة، ونادرة هي المواهب التي تلجم وأصحابها أحياء قادرون على تأجيجها ونشر ما تبوح به أو تفيض.

والكاتب الإيطالي جوزيبي أميرلمبدوزا هو الكاتب الذي لم تظهر عليه أعراض الكتابة والتأليف، وإن كان شغوفاً بالثقافة والقراءة، ولكنه عكف على كتابة روايته الوحيدة (الفهد) في آخر سنة من عمره، بعد أن ظلت تراوده أكثر من خمسة وعشرين عاماً، وكان كلما همّ بكتابتها حالت بينه وبينها أشغال وظروف أبعدت أحدهما عن الآخر.

المهم أنه كتبها، وانتهى منها قبل شهر من وفاته، وطبعت بعد رحليه، فأذاعت شهرته في جميع أنحاء إيطاليا ثم في أنحاء أوربا لأنها سرعان ما انتقلت إلى اللغات الفرنسية الإنكليزية والألمانية والأسبانية والروسية.

وهي روايته تتحدث عن الزمن الذي عاشته إيطاليا سنة ،1860 أي زمن الثورات المتتالية من أجل توحيد إيطاليا، والقضاء على الأسر الارستقراطية التي استقلت كل واحدة منها بحكم مدينة إيطاليا، فأقامت فيها دولة أو مملكة، وأسست فيها الجيوش لكي يحارب بعضها بعضاً. وقد التف القراء الإيطاليون حول هذه الرواية ورحبوا بها مثلما التفت الجماهير الإيطالية حول تلك الثورات المنادية بوحدة إيطاليا كرهاً بالظلم والشقاء والعبودية، وحباً بالحرية، والعيش بكرامة أسوة بما حدث في البلاد الأوربية الأخرى.

وعنوان الرواية (الفهد) يعود إلى لقب الأسرة الذي اتخذه الجد رمزاً لها وعلامةً ميّزتها من غيرها من الأسر الأخرى، وقد جعلت صورة الفهد رسماً مطبوعاً على ملابس الجنود حماة المدينة، وهذا يرزق بالأولاد، أما كلمة (لمبدوزا) فهي اسم الجزيرة التابعة لمدينة صقلية، ولنفوذ الأسرة، وهي تقع على بعد مئتي كيلو متر جنوبي المدينة، وفيها القلعة الأهم التي كانت تدافع عن المدينة في كل ما وجهها من حروب وغارات.

اكتسب جوزيبي أميرلمبدوزا ثقافة واسعة داخل قصر والده، ولاسيما من أمه التي كانت تحبّ الثقافة الفرنسية، فأورثت هذا الحب لولدها جوزيبي الذي وقع تحت تأثير أدباء فرنسا وسطوتهم الفنية، فأحب أناتول فرانس، ومارسيل بروست، وستندال.

وقد عملت المدرسة الرسمية أيضاً عل بلورة ثقافة جوزيبي، خاصة ما تعلمه وعرفه عن أعلام الأدب اللاتيني الكبار من أمثال: دانتي، وبترارك، وبوكاشيو، وما تعلمه وما عرفه عن أعلام الأدب الروسي الكبار من أمثال: تولستوي، وبوشكين، وغوغول، ودوستويفسكي، وأتقن جوزيبي خمس لغات عالمية، وهذا الأمر عائد إلى التربية والتقاليد المعروفة داخل أروقة قصر أبيه.

عُرف جوزيبي أميرلمبدوزا بصداقاته الواسعة للأدباء والفنانين والمفكرين في إيطاليا وأوربا معاً، فقد كان صديقاً حميماً للشاعر الإيطالي المعروف لوسيو بيكولو الذي ربطته به أيضاً صلة قربى، وقد كان الشاعر بيكولو يشجعه على الكتابة لما آنسه فيه من سعة الثقافة، ورجاحة العقل، ومعرفة أسرار الأدب، لاسيما بعدما قرأ بعض النصوص الخاصة التي كتبها جوزيبي تعبيراً عن مشاعره، ولم يكن يود أن يخرجها إلى العلن أو يظهرها للناس، وقد أدت زوجته (أليسندرا) دوراً مهمّاً في حياته الثقافية، فحثته على الكتابة اليومية خارج المنزل لتصير الكتابة عادة، وهذا ما قام به جوزيبي، فقد غدا يومه مجالاً للكتابة مدة خمس ساعات في مقهى قريب من المنزل، يتلوها نقاش وحوار في الثقافة والفنون والفلسفة عامةً مع أصدقائه الذين يأتون إلى المقهى عند الظهيرة عادة.

العمل الأدبي الوحيد الذي أذاع شهرة جوزيبي أميرلمبدوزا هو روايته (الفهد) التي حازت اهتمام كل من قرأها وفي مقدمتهم الأدباء الكبار مثل الشاعر الفرنسي أراغون إنها من أعظم الأعمال الأدبية التي عرفتها أوربا في القرن العشرين، و إي. أم فورستر الذي وصفها بأنها إحدى أهم الروايات الأوربية الفريدة.

وقد بقيت هذه الرواية (الفهد) خمسة وعشرين عاماً تدور في ذهن جوزيبي، ولم يشرع في كتابتها إلا عندما قال له طبيبه الخاص، إن مرضه السرطان لن يمنحه من الحياة سوى سنة واحدة، وعليه خلالها أن ينجز أعماله التي يحبها أو التي يرغب بتنفيذها، ولم يكن لديه ما هو أحب من أن يكتب هذه الرواية لأنها تمثل رغبته في تسطير ذلك التاريخ المتعلق بأسرته من جهة، وبوطنه إيطاليا من جهة أخرى، وقد كتبها بزمن قياسي، وما إن طبعت الرواية (الفهد) بعد موته حتى نالت شهرة كبيرة جداً لأن طبعتها الإيطالية باعت نحو (180) ألف نسخة مباشرة، وترجمت إلى ست عشرة لغة أوربية، ونالت أهم جائزة إيطالية معنية بالأدب هي جائزة (ستريجا).

وفحواها أنها ترسم أجواء انهيار الأسر الارستقراطية، وعالم النبلاء أمام الثورات الشعبية المنادية بالحرية، والحقوق، والوحدة، وقبول المجتمعات لهذه الروح الجديدة التي شاعت في معظم البلدان الأوربية تباعاً، ولذلك عُدت الرواية صفحة مهمة من تاريخ السياسة الإيطالية، مثلما عُدت صفحة من تاريخ الثورات الإيطالية التي جاءت بالوحدة الإيطالية المنشودة. وقد امتازت الرواية بأسلوب أدبي سلس فيه من الشعرية والمتعة ما جعل من تاريخ إيطالية غناء أحبه قراء الرواية، وما جعل من شخصياتها بشراً وأصواتاً وأفعالاً تجول داخل أحداث الرواية فصبغتها بالحيوية الآسرة.

بعد وفاة جوزيبي أميرلمبدوزا عُثر على نصوص أدبية في أدراجه، وكانت على أنواع ثلاثة: هي القصص، والأشعار، وأدب الرحلات، وقد ظهرت للنور تباعاً، ومنها: مرابع طفولتي، والبروفسور وحوريات البحر، والقطط العمياء، وفيها أحداث واقعية مثلما فيها تحليق في عالم الطوباوية والخيال.

توفي جوزيبي أميرلمبدوزا في إحدى غرف فندق بمدينة روما سنة ،1957 تماماً مثلما توفي والده في إحدى غرف فندق، ولكن في مدينة فلورنسا، بعد أن ترك وراءه رواية (الفهد) التي لم تتحدث عنه فحسب، بل تحدثت عن أسرته، وعن تاريخ الحياة الاجتماعية الإيطالية إبان ثورة غاريبالدي قائد الفرسان الحمر.

العدد 1140 - 22/01/2025