تداعيات غارة القنيطرة

شكلت الغارة التي شنتها إسرائيل، يوم 18 كانون الثاني 2015 بالقرب من مدينة القنيطرة السورية الضربة الأكبر لقوات المقاومة الوطنية اللبنانية ممثلة بحزب الله الذي تقاتل قواته جنباً إلى جنب مع الجيش العربي السوري، ضد العصابات الإرهابية المسلحة التي تزرع في الأراضي السورية واللبنانية الموت والدمار. وفي الوقت نفسه كانت ضربة موجهة إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية ودورها الإقليمي الآخذ في الصعود من منطلق استراتيجية شل الأطراف وتوجيه ضربة قاضية إلى القلب.

هذه الغارة جاءت في ذروة التدخل الإسرائيلي السافر في الأزمة السورية، بعد أن كشفت تل أبيب القناع وبدأت بنسج العلاقات مع التنظيمات الإرهابية،علانية، في منطقة القنيطرة، تحت مسمى الجدار الطيب، قدمت خلاله الدعم المادي واللوجستي لأفرادها، إضافة إلى الدعم العسكري كي تتمكن من السيطرة على هذه الرقعة الجغرافية الهامة استراتيجياُ لتكون قاعدة انطلاق عملياتها باتجاه الحدود اللبنانية، وحلقة الوصل لربط محافظات سورية الجنوبية بهدف محاصرة دمشق وإسقاطها. وقد استهدفت الغارة ما اصطلح على تسميته (غرفة عمليات القنيطرة) التي كانت تهدف إلى تأسيس بنية تحتية للمقاومة الوطنية بغية منع العدو الصهيوني والمنظمات الإرهابية المتعاونة معه من تنفيذ هذا المخطط. في مؤشر واضح إلى نية القيادة السورية إلغاء اتفاقية فك الاشتباك مع العدو الإسرائيلي الموقعة عام ،1974 بعد أن ثبت للجميع بالأدلة القاطعة الحرب القذرة التي تشنها إسرائيل على الشعب السوري عن طريق المجموعات الإرهابية التي تدعمها.

الغارة التي نفذها العدو، كانت بلا شك ثمرة تعقب ميداني واسع، وثمرة معلوماتٍ استخباراتية قيّمة جاءت عبر مصادر ميدانية عميلة سمحت بالوصول إلى القائمين على غرفة عمليات القنيطرة. هذا الخرق الأمني أدى إلى إيصال معلومات قيّمة عن تحركات هذه المجموعة، وإيصال معلومة خطيرة حول نية هؤلاء الوجود في نطاقٍ جغرافيٍ قريب من الجولان، قام العدو إثر ذلك بعمله. هذا الخرق قد يكون مُتعدّد الشُعب، فهو، إضافة إلى أنه خرق ميداني، خرق تكنولوجي عبر أجهزة الاتصالات، دُعّم برصدٍ جوي عبر طائرات الاستطلاع التي ما برحت المكان يومذاك، وهذا مؤكد من تقرير لقوة حفظ السلام في الجولان التي كشفت عن خرق هذه الطائرات لخط وقف إطلاق النار ودخولها المجال الجوي السوري، ثم العودة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.

رد حزب الله على هذه الغارة جاء عبر عملية مزارع شبعا التي كانت على المستوى نفسه، نظيفة، جريئة، ونوعية بامتياز، فقد نفذت (خلف خطوط العدو) حسب المفهوم العسكري. وكانت تنطوي على مزيج من عناصر الابتكار والخبرة والقدرة والمباغتة والشجاعة التي يمتاز بها مقاتلو الحزب بشهادة العدو قبل الصديق. وكانت عبارة عن (دفعة أولى في الحساب المفتوح بيننا وبين الإسرائيلي)- حسب السيد حسن نصر الله الأمين العام للحزب. فقد رصدت المقاومة لأيام ربما تحركات العربات العسكرية وتوقيت مرورها، ونوعيتها، وطبيعتها، إن كانت مصفحة أم لا، ودرست الممرات المستخدمة للعبور، وتابعت كل تفصيلٍ مهما كان حجمه، مما أثمر بنكاً من المعلومات الدقيقة التي عمل منفذو العملية على تحليلها واختيار الأسلحة التي ستستخدم، وتأمين طريق الخروج لاحقاً دون أي مشكلة للعودة إلى قواعدهم بسلام بعد تحقيق الهدف، وبناء عليه، نفذ حزب الله عملية نظيفة بتوقيتٍ مثالي، وضمن القواعد التي نصت عليها الأمم المتحدة. ذلك أن العملية نفذت ضمن الأراضي اللبنانية الخاضعة للاحتلال الإسرائيلي وضمن المنظومة الأخلاقية للحزب التي تنص على: جنود مقابل جنود، من دون استهداف للمدنيين.

ردود الفعل على عملية شبعا تراوحت بين مؤيد ومعارض وصامت يعيد حساباته، فبينما رحبت القوى الوطنية بهذه العملية التي أعادت البريق إلى وجه حزب الله، في الشارع العربي، الذي تعرض لحملة شرسة من منطلق طائفي شنتها ضده بعض القنوات الإعلامية العربية والخليجية، عارضت العملية بعض القوى السياسية اللبنانية، ممثلة بتيار المستقبل وحلفائه، من مبدأ أنها تدخل لبنان في صراعات هو في غنى عنها، وصرح سمير جعجع رئيس القوات اللبنانية قائلاً: (لا يحقّ للحزب توريط الشعب اللبناني في معركة مع إسرائيل، بل هناك حكومة ومجلس نواب يقرران هذا الموضوع)، فيما سأل الرئيس السابق ميشال سليمان: (أين مصلحة لبنان في جرِّه إلى حرب تحتاجها إسرائيل)، قبل أن تُصدر كتلة المستقبل النيابية، بياناً رأت فيه أن (القرارات المصيرية والوطنية، بما فيها قضايا الحرب والسلم، هي من مسؤولية مجلس الوزراء).

أما على الصعيد الدولي، ففور انتشار نبأ عملية مزارع شبعا، انهالت اتصالات على وزارة الخارجية اللبنانية للتأكيد على أهمية (لملمة الوضع وعدم دفع الأمور نحو التصعيد). وتلقى وزير الخارجية جبران باسيل اتصالات من السفراء والدبلوماسيين المعتمدين في لبنان، وفي مقدمهم السفيران الأمريكي ديفيد هيل والبريطاني توم فليتشر ومنسقة الأمم المتحدة سيغريد كاغ والقائد العام لليونيفيل لوتشيانو بورتولانو، فيما لوحظ غياب لافت للسفير الفرنسي باتريس باولي. بعد أن أطلقوا موجة من التهويل والتحذير من أن (لبنان سيدفع كلفة باهظة لأي رد على الغارة الإسرائيلية على القنيطرة). إن شن الحروب يخضع لحسابات ربح وخسارة دقيقة ومعقدة تتعلق بالظروف الداخلية والإقليمية والدولية والأهداف التي يجب تحقيقها والثمار السياسية المرجو قطافها. وفي حالة (إسرائيل) فإنها لا تستطيع المغامرة في حرب مفتوحة من دون دعم الولايات المتحدة أو رضاها الضمني على الأقل. وسياسة البيت الأبيض في المنطقة باتت معروفة في رفضها منطق الحروب الساخنة، فضلاً عن علاقته غير الودية بنتنياهو. ومسارعة هذا الأخير إلى إرسال أفيغدور ليبرمان إلى موسكو بهدف طمأنة إيران والتأكيد على عدم علم (الإسرائيليين) بوجود الجنرال الإيراني في القافلة، هو تراجع عن التصعيد. وتعرّض نتنياهو لعاصفة من الانتقادات الداخلية تتهمه بالمغامرة بحياة (الإسرائيليين) لأهداف انتخابية- يشي بغياب إجماع حوله لخوض الحرب.

أما بالنسبة لإيران وحلفائها في المنطقة، فإن نظرية حائك السجاد التي تعتنقها مراكز صنع القرار الاستراتيجي في طهران، واستراتيجية الاقتراب غير المباشر التي تحكم آليات عملها، قد تدفعانها للتريث قبل الرد بأسلوب العمل الاستخباراتي السري بحجم غارة القنيطرة ونوعها وفي الزمان والمكان المناسبين، وخصوصاً أن حصيلة هذه العملية كانت زيادة في رصيدها السياسي وإثباتاً لوجهة نظرها بأن الصراع الدائر حالياً هو بين القوى الرجعية ومن خلفها الإمبريالية العالمية والرأسمالية الدولية ضد القوى التي تعمل على تحرير القرار السياسي من أي تبعية للخارج، بعد أن حاولت القوى المناهضة لمحور المقاومة تصوير ما يحدث في المنطقة على أنه صراع طائفي ومذهبي.

العدد 1140 - 22/01/2025