أحداث العراق… دلالاتها والعبر منها
تثير الأحداث (المفاجئة) الجارية في العراق منذ أيام قليلة، العديد من التساؤلات المشروعة حول التقدم السريع واللامعقول عسكرياً لعصابات (داعش) الإرهابية واحتلالها خلال ساعات مدينة الموصل في شمال العراق وثاني أكبر مدنه، كذلك الانسحاب الفردي والكيفي للقوات المسلحة العراقية، الذي وصفه العديد من المسؤولين بالتواطؤ والمؤامرة. وأيضاً استيلاء (داعش) على مخازن الأسلحة الأمريكية (الفتاكة) المصدرة حديثاً إلى العراق، والمقدرة بمليارات الدولارات (يشير العديد من المراقبين إلى أن داعش بدأت تنقل هذه الأسلحة إلى الساحة السورية). كما يثير الواقع الداخلي العراقي بتركيبته الديمغرافية والعرقية، تساؤلات أيضاً حول طبيعة الموقف من العراق دولة وكياناً، وسط النزاعات والاختلافات التي يشهدها منذ الغزو الأمريكي عام 2003 واحتلاله، الذي ساهم في تغذيتها واستفحالها.
هذا في الوقت الذي تؤكد فيه المواقف (الغربية) والأمريكية خصوصاً، حجم نفاقها وازدواجية تعاملها، وتالياً مصالح هذه الدول في شرق أوسط جديد، يقسم ويفتت ما هو قائم، ويعيد فك المنطقة وتركيبها وفق مصالحها، وإشغالها في الحد الأدنى بصراعات تبدو (داخلية) وإدامته ما أمكن ذلك، وفي المحصلة إنهاكها على المدى القادم.
يدعم الأمريكيون وحلفاؤهم الدوليون رسمياً العصابات المسلحة المسماة (المعتدلة) بالأسلحة (الفتاكة) وغير (الفتاكة)، كما أعلنت سوزان رايس مستشارة الرئيس الأمريكي أوباما، كما يؤمن الوكلاء المحليون نفقات هذا الدعم مادياً ولوجستياً. ويصنف (الغرب) العديد من هذه العصابات في لائحة الإرهاب نظرياً، في الوقت الذي توفر فيه أدواته الإقليمية الدعم المباشر وتفتح الحدود أمام هذه العصابات، التي يقر الجميع بأنها مرتزقة وقتلة قدموا من أكثر من 83 دولة.
ورغم انكشاف هذا المخطط الأمريكي -(الغربي) (الإقليمي) في سورية، الهادف إلى إدامة الأزمة السورية، وجعل سورية منطقة للصراع والاقتتال بين هذه العصابات والدولة السورية، ومخاطر هذا الصراع على المنطقة برمتها، فإن اتساعه ليشمل العراق قبل أيام، يؤكد ما كانت تطرحه سورية مبكراً، أن ما يجري لا علاقة له البتة بالديمقراطية وحقوق الرأي وغيرها من اللافتات، بل بثروات هذه المنطقة وموقعها الجيوسياسي الهام في الخريطة الإقليمية والدولية.
ويطرح هذا الاستنفار اللفظي (الغربي) وأبواقه، بعد أحداث العراق، والدعوة إلى التصدي للعصابات الإرهابية، مهزلة فاقعة، لخصها أوباما بالحاجة القصوى لمحاربة الإرهاب ولافتته (داعش) عندما يعرّض المصالح الأمريكية للخطر، إنما دون تدخل مباشر، والاستمرار في الوقت نفسه في دعم هذا الإرهاب في سورية، بوصفه (ثورة) وتعبيراً عن مصالح الشعب السوري، الذي رفض هذا المخطط ويقاومه.
محاربة الإرهاب الذي مازال (الغرب) يرفض الاتفاق حول تعريفه وكيفية مواجهته دولياً، وتتعاطى معه دول الديمقراطية الغربية لافتة تستخدمها وفق مصالحها هنا وهناك، كما تتعامل مع حقوق التعبير والرأي انسجاماً ومصالحها، ويتجلى بوضوح في دعمها، لا بل تحالفها مع أنظمة توليتارية فردية ملكية، أو عائلية لا يحكمها دستور أو قانون أو أبسط أبجديات الديمقراطية.
وتحاصر وتحارب مباشرة أو بالوكالة دولاً أخرى، وتفرض عليها عقوبات لا يقرها القانون الدولي تحت لافتة الديمقراطية ومحاربة الإرهاب.
نفاق (غربي) أظهرته سنوات الأزمة السورية، وأكدته أحداث العراق الأخيرة المفتوحة على أكثر من احتمال، في الوقت الذي يصمت فيه الوكلاء المحليون صمت القبور، تجاه أحداث العراق الأليمة، الذين وفروا ومازالوا الدعم لهذه العصابات الظلامية. وفي هذا السياق ينظر إلى ما يحدث من مخاطر في العراق، إلى جانب اكتساح (داعش) المثير للاستغراب لمدنه ومحافظاته، والذي يتلخص في إحداث شرخ في المجتمع العراقي ومكوناته، وبضمنها مرجعياته الدينية والعشائرية، مهد له الحاكم الأمريكي بول بريمر بعيد احتلال العراق، بحلّ الجيش العراقي، والصلاحيات الواسعة والملغومة لمناطقه ومحافظاته، مروراً بتهيئة الأوضاع الداخلية لصراعات عرقية وطائفية تنهك البلاد وتفاقم أزمتها.. وهذا ما يتطلب من العراقيين إدراكه، والعمل على تجاوزه، بوصفه معضلة من المعضلات الرئيسية التي تواجهه، وفي هذا السياق أيضاً لابد من الإشارة مجدداً إلى الحلفاء الحقيقيين للعراق والمنطقة عموماً، وفي مقدمتهم روسيا التي دعت مجلس الأمن الدولي لعقد جلسة مخصصة لمناقشة مشروع روسي، حول كيفية محاربة الإرهاب والعصابات الظلامية في منطقة الشرق الأوسط، واعتماده دولياً والالتزام به.. وجاءت أحداث العراق الأخيرة لتؤكد صحة هذا التوجه وضروراته ودلالاته أيضاً.