لهذا.. الربيع أجمل!

كعادتهِ..

وفي صباحٍ باردٍ دسَ نفسهُ خلسةً في ذاكرة دافئة اغتيلت ذاتَ صقيع.

راح يتسكع في أروقتها محاولاً تنظيف هوائها من غبار النسيان وخيوط العنكبوت، عبق الرائحة، أرصفةٌ كانت وطناً لغريبين، وجهٌ يسكنُ كلَ شيء سافروا به إلى حيث يريد ولا يريد.

بضع غيمات حملتهُ إلى سماء اللون، واستحالت الجدران صفحات لأشرعة رحلت ونسيت شيئاً ما في عشبٍ عاتبَ الربيع طويلاً.

اتكأ على جدار في آخر ذلك الزقاق وراح يشتمُّ المكان بحثاً عن ياسمينة طفلة اعتادت تسريح شعرها على ذلك الرصيف، واعتاد الصباح تسريح وجهها بالشفق البحري.

تسللتْ إلى أعماقهِ نسمةٌ هاربةٌ تضوع منها عطر نسيته هنا يوم كانت تأتيه، هاربةً إليه، معتقةً برائحة المروج ولون السماء، حين كان حضور عينيها يعمد روحه ويروض حزنه العتيق.

كانت تأتيهِ رغم وابلٍ من الأعين والألسن المشردة، تأتيهِ والشوق المكبل خلف الجدران يلوك أيامها، تطأ الدرب بخيالها قبل عينيها، قبل قدميها.

في الجانب الآخر من العالم، كان ينتظرها بكل صمته وتعب الغياب.

كان ينظرُ إلى ساعته يستمع إلى ثوانيها وهي ترتل صوت خطواتٍ يتراقص المطر على أنغامها ويزف لهُ وجهها المعتق بالجمال.

وجهها الذي رحل في ليلة تمدد سوادها على أزمنته، في تلك الليلة، أغلقت ذاكرتها، وضاعت في الزحام بعد أن عفرت وجه الشمس بالعتم واغتالت حتى ما كان سراب فرحٍ، ورحلت تاركةً خلفها انتظاراً طويلاً.

لا تزال أشياؤها تؤثث غرف الذاكرة، طيف ابتسامة، نظرات تحمل في طياتها حلماً هارباً من السجان وحبل المشنقة، ولا تزال أصابعهُ تبحثُ عن شعر استقل الريح وسافر بعيداً، ومن يومها لا هو عاد ولا الريح تعيد ما تأخذ.  

رغم الصقيع وجنازتها الأخيرة كان لا يزال مبحراً في ذاكرته إلى أن استرده صوت ما إلى المكان، صوتٌ تعالى بالقرب من نعش حبيبته الأخضر، كان الجميع يشيعونها بصمت حتى وصلوا إلى مفترق للطرق، وتحت ظل زيتونة تحترف الظل والوحدة على ذلك المفترق اختلفت آلهة الخير وآلهة الشر، كلٌّ يريد دفنها في مقبرته، وفي غفلة عن الآلهة خبأ النعش في عينيه وهرب به بعيداً ليغرسه في أزمنة لمْ تأت بعد.

حيثُ لن تستطيع كل الآلهة منعهُ من العودة إلى طفولةٍ ثملة برائحة أمه، وإغفاءةٍ مطمئنةٍ في مهده إلى الأبد.

العدد 1140 - 22/01/2025