وجع الأرواح العظيمة
قبل أن يكتمل ثوب العروس، كان كومة من الخيطان، وقبل أن تتسع الطرق، كانت ضيقة، وقبل أن ترتفع القلاع كانت حجارتها مبعثرة، وقبل أن تقوى العضلات، كانت قطعاً من اللحم المترهل، وقبل أن تقسو جذوع الأشجار كانت ضعيفة وطرية، وقبل أن تولد العواصف، كانت حبات من الرمال الناعمة والمطر الرقيق.
ما أكثر الذين يظنون أن الأشجار تكبر وتزهر وتثمر وتعطي دون ألم أو معاناة! ويعتقدون أن الشمس تظهر لنا في كل صباح وديعة هادئة، ولايفكرون أبداً بتلك التفاعلات الرهيبة التي حدثت وتحدث في كل لحظة في جوفها وفوق سطحها الملتهب قبل أن تصل حرارتها إلينينا، ويعمّنا نورها العظيم.
(ولا شيء يصيّرنا عظماء مثل الألم العظيم).
إن كل شيء من حولنا لا بد أن يدفع ثمناً ما مقابل عطائه. ولا يمكن للإنسان أن ينمو ويتطور حتى يكون الألم جزءاً من تركيبته وبنائه، وهل تجري أنهار العالم من دون ألم وتعب؟ أو تمطر الغيوم وتثلج من غير أن تتحمل اشتعال البرق فيها، أو تهب الزوابع وتحدث الأعاصير والزلازل من دون وجع سكنها ورافق حدوثها وارتجاف الأرض من تحتها؟!
(وما اللؤلؤ إلا ابن الألم الطويل، وثمرة داء دفين. وكيف يضحك المرج إن لم يبكِ السحاب؟). ولا يصير الزيت زيتاً إلا بعد هرس حبات الزيتون، ولا يصبح العطر عطراً إلا بعد عصر الورود، ولا ينقلب العنب زبيباً أو يصير دبساً إلا بعد أن تشويه الشمس ويعاني وجع الغلي فوق الحطب والجمر.
حتى الأولاد لا يكبرون إلا إذا عانوا ألم النمو، فدائماً يشعرون بوجع خفي يرافق نمو عظامهم الطرية، ووخزات في لحمهم وهو يأخذ حجمه ويكبر ويتمدد في كل صباح، إضافة إلى ألم يحدث لهم مع كل سن ينبت أو ضرس يخرج.
الوجع كالصبر، له وجهان، وجه محتمل، ووجه لا يمكن احتماله، فهناك وجع يقع علينا ممَن نحب، ووجع آخر ممن نكره.
واحتمال الأوجاع لا يحدث إلا لأصحاب النفوس الكبيرة والهمم العالية، وكم من وجع جاء بعده الزهر والثمر، وكم من وجع مات صاحبه في أول لقاء له مع المرض والمحن والكوارث.
وللأوجاع أحياناً أنواع وأشكال، فهي كالوجوه: منها الجميل، ومنها القبيح، منها ما يُحيي، ومنها ما يُميت.
وكلما تقدم بنا العمر، تعلمنا أكثر من أوجاعنا وهمومنا وحسراتنا. وبالمقابل لا بد لنا من دفع ثمن تعلُّمِنا نضارة شبابنا، وحيوية أجسادنا.
إن الوجع نار ونور.
نار إذا وقع في النفوس المريضة، والأعصاب الهشة. ونور إذا حملته الأرواح الطاهرة، العظيمة بتطلعاتها نحو عدالة تسود الجميع، وكرامة لا تنقص، بل تزيد، وحق لا يضيع، وحرية بعيدة عن الفوضى والاستهتار.
انتظارنا وجع، لكنه وجع اللقاء.
وسفرنا وجع، لكنه وجع الوصول.
حياة لا تكتمل وتستمر إلا إذا رافقها الوجع، كما ترافق الشمعة فتيلها، والنار نورها، والجبال قمعها، والوردة عطرها.