الامتصاص
تعددت التوصيفات للمواطن السوري، وتداخلت ألوانها وتشابكت خيوطها. وارتفع سقف الصبر وفاض الكأس وازداد هذا العصير مرارة.
هناك من بحث في المعاجم عن معنى الامتصاص، فوجد وصفاً حميداً يليق بالمواطن الصابر الذي تحمَّل الكثير في سبيل الوطن. وأكد مراقبون أن المواطن كالإسفنج مستعدّ دائماً لمزيد من تجرّع الآلام والصبر وتحمّل الساعات الطويلة، بانتظار دوره للحصول على ربطة الخبز. والمواطن السوري ذكي جداً ولا يحتاج ذلك إلى شاهد.
ويرتبط الامتصاص بالمسامات. هناك من تكون مسامات جلده واسعة وأكثر قدرة على الامتصاص، وآخر تكون مسامات جلده ضيقة. أما الإسفنج فهو من جنس الحيوانات المائية، فهو كثير المسام وتتخذ منه الإسفنجة للتنظيف. ويحتاج الصبر إلى الإسفنج البحري لا الاصطناعي، في زمن أطلق عليه (زمن الامتصاص).
المواطن السوري ذكي وفهيم يعرف الأسباب التي أوصلته إلى هذا الحال، ولا حاجة به إلى من يشرح له كثيراً ما يجري حوله وفي محيطه وحتى في العالم، وهو مقتنع تماماً بأن الأزمة أفرزت شريحة اجتماعية واسعة من ما يسمى بـ (تجار الأزمات) من الفاسدين، بدءاً من رغيف الخبز وأسطوانة الغاز وليتر المازوت، إلى غسل الأموال. ويعرف أن القوي يأكل الضعيف، وأن المحتكرين والجشعين واللصوص والمستغلين لا يوجد من يحاسبهم، فقد تمرّدوا ورفسوا القيم وهدموا معابد الرحمة والإنسانية.
لقد تضخّمت عضلات قلوب الناس، وتصلَّبت الشرايين التي تغذيها، ولم تعد المسامات قادرة على امتصاص إضافي.. وقد انتفخت الرؤوس وأصبحت كالطبول، وضمرت عضلات الذاكرة ولم تعد تستوعب أي خبر عاجل.. وبعد أن يحل المساء وتخيم العتمة، يبدأ المواطنون يبحثون عن أصابعهم ويعدونها خوفاً من سرقتها، فهم بحاجة إليها.. والسؤال: لماذا؟
ويأتي الجواب من أحد العارفين إذ يقول: خمس أصابع لخمس حاجات لا غنى عنها(الخبز والغاز والمازوت والكهرباء والاطمئنان على سلامة الوطن). وفي هذه الأيام يحتاج المواطن السوري إلى إسفنجة تمتص كل الأشياء، وإلى فم يأكل ولا يحكي، وإلى بطانية يلف بها جسمه، وأن يكثر من شرب الماء كقوة محركة له، تساعده على المشي من سكنه إلى عمله وبالعكس، وأن يلغي من حساباته اليومية انخفاض أسعار المواد التموينية، وألاَّ يتجرّأ ويطالب بزيادة الحوافز، فالراتب أصبح على العظم.. لا إضافي .. ولا حوافز ولا مهمات.. وراتب الحد الأدنى لمتقاعد(مثلي) يساوي مئة دولار.. وأجرة التكسي من الدويلعة إلى جرمانا(على العداد) 150 ليرة سورية فقط لا غير. وربطة الخبز في مطعم فول وفتة وحمص بمنطقة المزرعة بـ 75 ليرة. والإسفنجة (المواطن) لم تعد تتقبّل المزيد من الامتصاص. وإذا عُصِرت فستملأ خزاناً يتسع لخمسة براميل مازوت.
وكتب أحدهم تمنياته على الأوراق الصفراء وفي صفحات ذاكرته، التي لا تزال قادرة على استيعاب بعض من عصير الصبر الذي فاض عن الحدود.. كتب ما يساوي مجلداً منذ بدء الأزمة، إذ تصور أنها أزمة عابرة، لكنها توطنت في حياته وغدت من يومياته الأساسية، فهو يغلق سجله في الليل لأنه مصاب بالعشى الليلي. ولا يفتحه إلاَّ بعد أن تشرق الشمس فيدفئ قلمه وأصابعه ويشحن نفسه بشحنةِ أمل مقرونة بخبر تلقفه من الشاشة، يمكن أن يبعث السرور إلى قلبه (نفذ جيشنا الباسل عملية نوعية في بستان الباشا..).
فرش المواطن الإسفنجة وعصرها فسالت منها دماء وآهات وشظايا وأجزاء من رؤوس وجماجم محطّمة، ونتف من اللحم لا يزال البحث جارياً لمعرفة أصحابها.