توجيهات من «فوق» تحوّل «العقاري» إلى عاطل عن العمل

لايمكن فهم الخطوات والإجراءات التي تتخذها المصارف المحلية، وبالذات العامة منها، بمعزل عن الوضع المالي العام للدولة. ويكفي ما أعلن من موقف المصرف العقاري بإيقاف قروضه، حتى قروض وديعة الادخار وإقراض المكتتبين بمساكن لدى المؤسسة العامة للإسكان، للتأكد أن الغموض يلف موقف وزارة المال التي تتبع لها المصارف، ويعكس مدى التخوف من مستقبل القروض، ويعيد فتح مشكلة الديون المتعثرة، والقروض المعدومة، من جديد.

واللافت أن تصريحات المديرين العامين للمصارف تؤكد استقرار وضع هذه المصارف، الذي يصفونه بالآمن، لاسيما مديرَيْ العقاري والتجاري، لأنهما أكثر مديرين للمصارف يتعاطيان بإيجابية مع وسائل الإعلام، مقارنة بحالة من الانزواء، وعدم الرغبة لدى المديرين الآخرين بالظهور الإعلامي، حتى قبل هذه الأزمة التي تمر بها البلاد. ويبدو أن طمأنات المديرين العامين هي للاستهلاك الإعلامي فقط، ولبث روح التفاؤل لدى المواطنين والمتعاملين بالليرة السورية. ولانشك إطلاقاً بها، لكن هناك من يحاول إبرازها سلبياً، وإظهار منعكساتها غير الإيجابية، دون أن نعرف السبب الكامن خلف هذا التصرف. فالقرار الذي أعلنته وزارة المال، يخفي الكثير من المسائل الاقتصادية الشائكة والمعقدة، والقضايا التي كنا نتمنى عدم طرقها في هذه المرحلة، وأولها الأثر السلبي الذي يظهر للوهلة الأولى من مجرد إعلان إيقاف الإقراض، إذ لا يوجد مصرف يُقدم على خطوة كهذه إلا في الحالات الاضطرارية المتعلقة بملاءته بالدرجة الأولى، وبعدم توافر السيولة من خلال تراجع الإيداعات وزيادة السحوب من جهة ثانية.

 ويبرز التساؤل الآن: ما الذي دفع العقاري إلى اللجوء لإعلان وقف قروضه؟ قبل فترة وجيزة كان مدير عام المصرف الدكتور عابد فضلية يعد المواطنين بمنتجات مصرفية مختلفة، وإعادة تفعيل القروض المتوقفة التي تدخل ضمن إطار عمل المصرف. والدكتور فضلية القادم من كلية الاقتصاد بجامعة دمشق له موقف ورأي في الشأن المصرفي قبل أن يتسلم مهامه مديراً للمصرف، إذ توقعنا أن المصرف في ظل إدارته سيشهد نقلة وتطوراً استناداً إلى الآراء التي كان يعلنها الدكتور فضلية عبر وسائل الإعلام، لنفاجأ أن أمر وقف الإقراض جاء بتوجيه من رئيس مجلس الوزراء، وفي هذا عود غير مرغوب إلى زمن التوجيهات الذي دفعنا الكثير من الثمن نتيجة تداعياته ومنعكساته السلبية، وتغييب الحالة الموضوعية باتخاذ القرارات الصحيحة، وتجاهل تعلّم فن صناعة القرار الاقتصادي.

ويبدو موقف العقاري والجهاز المصرفي والجهة المشرفة عليه ضعيفاً للغاية، ولايمكن تفسيره سوى بالتخوف غير المشروع، إلا إن كان لدى وزارة المال ما يدعو لاتخاذ هذا الإجراء، وهي تتكتم عليه، وفي كلتا الحالتين موقفها خاطىء. فقطاع العقارات الذي قيل فيه الكثير، ويتعرض لأزمات متتالية أغلبها إسكانية وليست سكنية  بحسب الحكومة  بحاجة إلى قاطرة تقوده وتدفعه وتنهض به. و ثمة رافعة مالية وحيدة قادرة على حمل هذا العبء الكبير الذي له أبعاد اقتصادية وتنموية واجتماعية في آن، هي المصرف العقاري المتخصص بهذا النوع من العمل المصرفي، وهي الميزة النسبية التي يملكها التخصص المصرفي مقارنة مع بقية المصارف الأخرى التي لها تخصصات أخرى غالبة على عملها ونشاطها. فماذا سيبقى لدى العقاري في حال توقف أهم ما يمكن أن يقدمه، والمجال الذي يتسم به نشاطه بشكل رئيسي؟ وهل الصرافات التي يملكها قادرة على تلبية احتياجات المصرف أولاً؟ أم أنها أتت تكملة وإضافة جديدة لعمله من باب التنويع؟

   من جهة ثانية، ألا يدري متخذ هذا الإجراء، أن الاستقرار التشريعي في مجال العمل الاقتصادي على وجه الخصوص، كان أحد أهم المطالب التي بُذلت جهود كبيرة لتحقيقه وترسيخه؟ وأنه بهذا الإجراء غير المفهوم وغير المبرر، تم التراجع فوراً سنوات إلى الوراء، وتعرض هذا الاستقرار إلى هزة عنيفة، بل كان هذا الإجراء ضربة أصابت من الاستقرار التشريعي مقتلاً؟ وربما السؤال الأبرز: ما ذنب أصحاب الودائع أن يتنكر المصرف ويتراجع عن وعوده لهم، ويتخلى عن قراراته التي يفترض أن تكون مُلزمة له؟ بل هناك ما هو أخطر من ذلك، نظراً لأن المصرف العقاري وقع عقوداً مع أصحاب الودائع، وهنا المصرف سيكون الخصم لهؤلاء، وبالتالي فالثقة بالقطاع المصرفي ستهتز حكماً، إلا في حال استثنى العقاري هؤلاء من قراره الذي أتى من (فوق) وعبر عن مأزق مالي، ووضع المصرف في (ورطة) مع زبنه.

قبل أشهر، توجه مواطنون إلى المصرف التجاري بغية إيداع مبالغ ولو زهيدة لدعم الليرة السورية، وكانت خطوة تدل على رغبة في دعم الليرة والقطاع المصرفي في آن، ووقتذاك نادى عدد من الخبراء النقديين والمصرفيين بضرورة أن يقوم المصرف التجاري بتحريك السيولة لديه، وضخ هذه الأموال في الأسواق عبر قروض مختلفة، لأن الغاية من المال هي أن يكون للتداول، لا أن يوضع في الخزائن، إلا أن إدارته لم تحرك ساكناً، ليتبين فيما بعد أن الخطأ الذي وقع فيه المصرف كبير جداً، وهذا ما نخشاه أن يكون الخطأ الذي أُرغم المصرف العقاري على ارتكابه ليس بإرادته، لكنه بالتأكيد سيكون الجهة الوحيدة التي ستدفع ثمنه، إلى جانب اقتصادنا الوطني، بعد أن حوله (التوجيه) إلى مصرف عاطل عن العمل.

العدد 1140 - 22/01/2025