أبوية فاشلة وليبرالية خانقة.. صياغة دور الدولة السورية في الاقتصاد
استحوذت عقلية الحماية، ودور الدولة الأبوي، على الأدبيات الاقتصادية السورية لمدة تجاوزت نصف قرن، منذ ستينيات القرن الماضي ولغاية مطلع الألفية الثالثة، وكان الخروج عن هذه الأدبيات والتوجهات والسياسات الاقتصادية القائمة يشكل خطاً أحمر، لايمكن تجاوزه. وعملياً ظل الاقتصاد الوطني بالعموم بلا نهج واضح، إذ لم يستفد من هذه العقلية والخطط بالشكل المناسب، ولم ينحُ باتجاه الليبرالية بالمعنى الكامل للكلمة، وراوح بين ذلك الدور الرعائي الأبوي البطريركي، والليبرالية الاقتصادية، وانطبق عليه المأثور الشعبي: حاول الغراب تقليد مشية البطة فلا هو أتقنها ونسي مشيته الحقيقية.
تبرز من جديد موضوعة دور الدولة في الاقتصاد، وتأخذ مشروعيتها بالدرجة الأولى بعد 20 شهراً من الأزمة السورية، إذ ظهرت مؤشرات عدة تفرض إعادة صوغ دور الدولة في الاقتصاد، أبرزها سقوط التشاركية بين القطاعين العام والخاص سقوطاً مدويا، ورحيل رجال أعمال كان منتظراً منهم القيام بأعمال تنموية، تساند ما تنفذه الحكومة، ولم يبق سوى قلة قليلة جداً من رجال الأعمال جلهم من الصناعيين. وينطلق صوغ دور جديد للدولة في الاقتصاد، من الظروف القاسية التي يعيشها الاقتصاد والشعب السوريين، فهناك ندرة بدأت تظهر في المواد الغذائية، وعلى سبيل المثال توقف مخابز القطاع الخاص في معظم المناطق الساخنة، خلق تحدياً غذائياً بالدرجة الأولى، ومشكلات أخرى في المناطق التي لجأ إليها الهاربون من الموت والأعمال القتالية والعنف المتصاعد الوتائر. وبالتالي برز بشكل حقيقي دور الدولة في الاقتصاد لإيفائها بالتزاماتها تجاه مواطنيها، وقيامها بواجباتها التي لايمكن لقطاع أخر القيام بها. وها هي ذي الثيمة الأساسية في العمل الاقتصادي، الالتزام بالواجبات قبل المطالبة بالحقوق، سواء للدولة أو المواطنين، وتقديم الالتزامات يفرض حكماً المطالبة بالحقوق.
فدور الدولة المحوري في الاقتصاد، وحجم مشاركة الحكومة فيه، كان موضع جدل خلال السنوات العشر المنصرمة على أقل تقدير، ورجحت الحكومات المتعاقبة كفة انحسار دور الدولة وفسح المجال للقطاع الخاص، وإعطائه دوراً تنموياً رئيسياً. أما الذين دفعوا بدور الدولة الاقتصادي إلى الانحسار، فكانوا يراهنون على معطيات عدة، لكنهم لم يتمكنوا من التفريق بين ممارسة الدور من منطلق الدولة الأبوية في كل شيء، ودورها الأبوي في الاقتصاد، فالاقتصاد الوطني لا يدار بعقلية مديري الشركات، بل هناك اعتبارات وطنية واجتماعية يجب الخضوع لها، والاستناد إليها. وهؤلاء انجرفوا مع تيارات اقتصادية عالمية كانت تريد تعميم هذه التجربة. وبرغم أهمية إعطاء كل الشركاء دورهم في الاقتصاد إلا أن الدول التي تعد قلاعاً للرأسمالية حافظت على دورها وحضورها القوي في الاقتصاد، لأن الاقتصاد لا يدار بعقلية الربح والخسارة فقط، عقلية رجال الأعمال، بل على الصعيد الكلي ثمة اعتبارات أخرى ذكرناها أنفاً.
الآن، يبدو العود إلى الدور الأبوي للدولة في الاقتصاد من القضايا الشائكة، ولايمكن البت فيها ببساطة، فالشركاء في العمل الاقتصادي جميعاً هم الذين يقررون ذلك، ولكن التجربة التي يمر بها الاقتصاد الوطني حالياً، وحجم الخسائر التي تكبدها، وانطلاقاً من التزام الدولة بتأمين احتياجات مواطنيها، يؤسس لحالة جديدة تقتضي الذهاب بعيداً وإلى العمق لمطالبة الدولة بممارسة دورها الأبوي اقتصادياً، وعدم الاكتفاء بتقديم التسهيلات لقطاع الأعمال، ليمارس دوره كبديل جديد عنها. هذا البديل فشل إلى حد كبير في الإيفاء بالتزاماته، وحاول المواءمة بين ربحه المراد والذي يسعى إليه، وممارسة دوره الاجتماعي، لكن التجربة لم تنضج بعد، والمدة الزمنية التي أتيحت له لم تكن كافية، خاصة بعد نصف قرن من تحييده عن هذا العمل وتجاهله كلياً وعدم الاعتراف بقدراته وإمكاناته للمشاركة في قيادة الاقتصاد ضمن إطار الخطط العامة التي توضع.
وإعطاء الفرصة يفرض بالضرورة عدم ترك الاقتصاد الوطني يسير أو ينقاد إلى المكان غير المرغوب فيه، وإعادة تصحيح المسار عملية مطلوبة حتماً، نتيجة هذه الظروف أو غيرها، إذ لا يمكن ترك قيادة العمل الاقتصادي، دون متابعة وتدقيق وتقييم في كل المراحل. وهنا يبرز دور جهتين اثنتين تتحملان هذا الوزر، أولاهما الجهات العامة المسؤولة عن التخطيط للعمل الاقتصادي وتطبيقه، وهي هيئة التخطيط والتعاون الدولي ووزارة الاقتصاد. والثانية الأشخاص المشاركون في صوغ هذه السياسات ومراقبة حسن تطبيقها والجهات التي يتبعون إليها سواء كانت حزبية أم نقابية أم حكومية.
أخفقت المشروعات التي حاولت رسم مستقبل الاقتصاد الوطني، باستثناء تجاهل دور بعض الشركاء، والتجربة السورية غنية في مجال تحديد معالم أساسية يمكن السير عليها للوصول بالاقتصاد إلى مصاف الاقتصادات المتطورة، وفي تجربة فك الارتباط بين الاقتصادين السوري واللبناني أواسط القرن الماضي ثمة ما يدعو للتأمل. يومذاك كان الهدف من العملية كلها الاستجابة لمطالب الصناعيين السوريين، فكان القرار المهم الذي يمكن وصفه بالتاريخي، لكنه لم يك مؤلماً، بل حقق النفع العام. الآن وبعد كل ما جرى، وربما القادم الأخطر يتطلب ليس صوغ دور جديد للدولة في الاقتصاد، بل الإسراع في هذا العمل، والإجابة عن تساؤل جوهري: من يقود الاقتصاد في سورية؟