وجع الكتابة
هذا الوجع الأرق القاني، هو الذي يتحكم الآن بنا، وبما حولنا، وبتفكيرنا الذي اصطبغ بلون الدم والمأساة، فإذا بنا أسرى ذلك النزيف الأحمر الدامي، والذي ملك حواسّنا، ومشاعرنا، وأفكارنا، فحولنا إلى مجرد شخوص تقف على حافة أحمرها الموجع القاني، ولا ترى سواه يلوّن الحياة بلونه الآثم.. المريب!
الأشياء كافة بلون الدم، فالسماء تتشح بذلك اللون الناري الحارق، والأرض بأشجارها، وأنهارها، وسنابلها، وغاباتها العارية إلا من ذلك اللون الأحمر المارق، والعين، على ضيق اتساعها للبياض، اتسع ضيقها على امتداد لا نهائي بين العتمة والسواد، والأحمر والأرجوان، ولا تدري هل هذا قدرنا عبر الأزل، أم أننا أمة تضع قدرها بالأيدي الآثمة المحوكة بالعبث والجنون؟! وكأن تاريخنا كله يقف بنا عند داحس والغبراء، أو على أطلال البسوس، وهو يرمق بلا وعيه الغائب هول الكارثة، وعِظَم المحنة، ذلك الفيض الهائل من الدم، وهو يؤرّخ لراهننا المعاصر، بلغة أشبه بالمراثي، وكلمات أشبه برايات الحداد، وهي تخفق فوق ساحات غبار عواصفها عاتبة، حزينة، وقصائد تشبه ما يتركه الصدى على شاهدات القبور! نمضي، وأكفاننا على أكتافنا، لأن طريق النضال يمر عبر بوابة الموت ولكن ما نحن فيه تحت أي اسم ندرجه في تلك القوائم الطللية التي أغفلها التاريخ لمرارة أحداثها؟!
ونحن ندخل الألفية الثالثة، فإذا بنا عند بوابات العبور نفقد رموز المفاتيح، وعند التخمين الفزع نفقد بوصلة الجهات، وعلى مرارة الوجع نفقد الحس بمصطلح المرحلة، ها نحن أولاء نفقد الآن المسميات كافة، التي تصلح لمثل ما نعيشه، ونتذوق مرارة طعمه، ولكننا، في النهاية، سنُرغَم على الدخول في تفاصيل المصطلحات المريبة.. الراهنة، لأننا القدر المرصود لتلك التفاصيل القاتلة! والمصطلحات القاتمة، والتي لن تكون عبرة للزمان، والأجيال، لأنها المرحلة الأعتى ضراوة بمفهوم التاريخ، والأخطر سواداً في وجدان الأجيال، الأجيال التي صنعت مجد عبورها المعجزة يوم الخامس عشر من أيار، غداة اقتحمت أسلاك الوهم الشائكة باتجاه الجولان وفلسطين، ولحظة حاولت كتابة التاريخ الجديد الخلاّق بما يُراود أحلام الوطن والأمة، وما يعيش في جرح التراب الوطني من لحظة تعيد الوعي للأرق المذبوح بفعل الكارثة، ولكننا الآن نعجز عن التفكير بمثل هذا في الزمن الطارئ المريب. وحتى تحصل المعجزة، علينا أن نكابر على الصمود في وجه العاصفة المارقة، والمريرة، والقاتمة إلى حد الجنون! والعبث المرير والغاشم!