السياسات الاقتصادية السورية منذ نهاية الحرب العالمية حتى وقتنا الحاضر (1-2)

لقد ورثت سورية عن العصر الاستعماري اقتصاداً متخلفاً. وكان يجب على البلاد أن تجابه مهمتين أساسيتين معاً، الأولى التحرر من آثار الاستعمار وترسيخ الاستقلال الوطني، والثانية تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية تستطيع أن تنقلها إلى مستوى العصر. لقد كانتا مهمتين متشابهتين، وتتطلبان موارد مادية وقوى بشرية ماهرة لم تكن متوفرة آنذاك.

من هذا المنطلق يمكننا أن نقسم السياسة الاقتصادية الممتدة من الحرب العالمية إلى وقتنا الحاضر إلى عدة مراحل لكل منها خصائصها وظروفها الداخلية والدولية، ونتائجها الاقتصادية والسياسية.

المرحلة الأولى، تمتد بين نهاية الحرب العالمية إلى أواخر الستينيات من القرن الماضي. وتتسم هذه المرحلة الممتدة على مسافة ربع قرن تقريباً، بالاعتماد على المصادر الوطنية أساساً لتمويل الاستثمار، وقد تكونت هذه المصادر من الادخار المحلي المباشر، ويضاف إليه ادخار محلي سابق متراكم من زمن الحرب العالمية ومجمّد بسبب انغلاق أبواب الاستيراد حينذاك. أما القروض والمساعدات الخارجية فقد كان دورها ضئيلاً في تمويل الالتزامات الخارجية حتى أواخر الخمسينيات، ثم ازداد بعد ذلك، لكنه بقي محدوداً نسبياً بشكل عام. وعلى هذا، فلم تنشأ مشكلة مديونية، في حين أمكن التغلب على المصاعب الطارئة الناجمة أساساً عن اقتصاد زراعي خاضع للعوامل المناخية إلى درجة كبيرة. ربما كان الفضل في ذلك يعود للظروف العامة السائدة آنذاك، ومنها الشروط الداخلية، وبالدرجة الأولى الحماسة الوطنية الناشئة عن الاستقلال الوليد والآمال بالمستقبل ومحدودية نمط الاستهلاك، المستورد، ومنها الظروف الدولية مثل إعادة إعمار ما بعد الحرب، وثورة الرساميل واشتداد الطلب على المواد الأولية والحرب الكورية. بيد أن ذلك لا يلغي أهمية التجربة، بل ربما كان عكس ذلك هو الأصح، نظراً لما يمكن أن تحمله إلينا تلك التجربة من إيحاءات بالغة الأهمية بالنسبة إلى دور كل من الادخار المحلي والتمويل الخارجي. ويلاحظ على المستوى الاقتصادي السياسي عدم استقرار شديد وتحول في دور الدولة، التي انتقلت من دولة ليبرالية تقليدية إلى التدخل المباشر، ثم إلى التخطيط والاضطلاع بالدور الرئيس في الاستثمار وتكوين قطاع اقتصادي حكومي متزايد القوة والاتساع. إلا أن هذا التحول لم يكن دون علاقة وثيقة بتطور الادخار والاستثمار وميل معدله إلى الانخفاض.

ومن هنا يمكن تمييز طورين متتاليين في هذه المرحلة:

الطور الليبرالي

عرفت سورية خلال الحرب العالمية الثانية ازدهاراً اقتصادياً نسبياً، وتراكمت لديها كميات من القطع الأجنبي الناجم عن التصدير وعن نفقات الجيوش الحليفة وتزويدها بالمؤن والسلع المحلية، في حين كان باب الاستيراد شبه مغلق بسبب المعارك الحربية.

وتنقسم تدفقات القطع الأجنبي إلى قسمين. القسم الأول يشمل الأموال التي كسبها الأفراد والتي اكتنزوها على أشكال مختلفة كالذهب أو كأرصدة في المصارف الأجنبية. والقسم الثاني يشمل الأموال التي وردت إلى الحكومة وسجلت لحسابها في باريس وغيرها، حيث جُمِّدت إلى أن تم تحريرها فيما بعد بين السلطات الاستعمارية ودمشق.

لقد سجّل ميزان المدفوعات لسورية ولبنان  اللذين كانا يشكلان معاً اتحاداً اقتصادياً استمر حتى شهر آذار عام 1950  فائضاً ضخماً خلال سنوات الحرب (1940  1945)، كما يلي: نفقات الجيوش الحليفة: 1350 مليون ليرة سورية  لبنانية، ودائع خارجية: 425 مليوناً، استيراد ذهب وأحجار ثمينة: 114 مليوناً، إرساليات المهاجرين من الخارج: 120 مليوناً، الصادرات من السلع: 238 مليوناً. وقدرت المستوردات بمبلغ 619 مليون ليرة (1).

من ناحية ثانية بلغت الأموال السورية المتراكمة في المصارف الفرنسية لصالح الحكومة السورية 102 مليار فرنك، قيمتها نحو 187 مليون ليرة.

لقد اتفقت الحكومتان السورية والفرنسية على تحرير هذه الأموال عام 1949 بحيث تسحب تدريجياً على أقساط نصف سنوية، وبعد حسم 4,23 مليون ليرة هي قيمة الممتلكات الفرنسية المتروكة في سورية (2).

في عام 1950 جاءت الحرب الكورية لتعطي النمو الاقتصادي السوري دفعاً جديداً وقوياً بما أحدثته من ازدياد الطلب على المواد الأولية وارتفاع أسعارها. لقد ازداد إنتاج القطن السوري، وهو المادة الرئيسة آنذاك للتصدير، من 38 ألف طن عام 1949 إلى 175 ألف طن عام ،1951 وقفزت قيمة الصادرات الإجمالية من 113 مليون ليرة إلى 227 مليون ليرة، ثم استمرت في الصعود حتى بلغت 516 مليوناً عام 1956 (3).

إلا أن النمو الاقتصادي أخذ يتراجع في أواسط الخمسينيات، فتراجعت الاستثمارات تراجعاً شديداً بدءاً من عام ،1956 وانخفض النمو الصناعي من 12% سنوياً في الفترة 1950  1956 إلى 1% في عام ،1956 كما اتجهت الأموال السورية للهجرة إلى الخارج، إذ قدرت الأموال المهربة إلى لبنان في الخمسينيات بمبلغ 3000 مليون ليرة سورية، أو ما يعادل نحو مرة ونصف المرة قيمة الناتج الوطني لعام كامل من تلك السنوات وسطياً، أو نحو 15% من مجمل الدخل سنوياً (4).

لقد دفع تراجع الاستثمار والنمو الصناعي الحكومة السورية للتدخل المباشر في الاقتصاد. وتم ذلك بثلاثة أشكال:

1 بوضع برنامج استثماري تموله الخزينة العامة، مما أدى إلى ارتفاع حصة الدولة في الاستثمار من 7% إلى 16% عام 1958.

2 باللجوء إلى القروض الأجنبية، مما دفع الحكومة إلى التوجه نحو الدول الاشتراكية بسبب تلكؤ الدول الغربية وفرضها شروطاً سياسية غير مقبولة.

3 وأخيراً، باللجوء إلى التأميم لتجنيد الفائض الاقتصادي المحلي وتوجيه الاستثمار. (5).

طور الاقتصاد المخطط

لقد دفع منطق التدخل الحكومي، تحت ضغط الأحداث السياسية والاجتماعية والتطور الأيديولوجي، إلى تجذره التدريجي، مما جعل الدولة تتحمل المسؤولية الرئيسية والدور المسيطر في عملية التنمية.

ومن هنا بحثها عن مصادر التمويل من أجل بناء المشاريع الكبرى الإنمائية التي ثبت أن المبادرة الخاصة عاجزة عن القيام بها. وكان جراء ذلك تأميم مؤسسات التمويل كالمصارف وشركات التأمين، والشركات الصناعية الكبرى وشركات التجارة الخارجية، وإلى إقرار الإصلاح الزراعي. وقد حققت الدولة بذلك القدرة على تجنيد قسم كبير من الفائض الاقتصادي وعلى فرض رقابتها العامة على الاقتصاد الوطني برمته. وإضافة إلى ذلك تم التوقيع في عام 1957 على اتفاقات التعاون الاقتصادي والفني بين سورية والدول الاشتراكية من أجل بناء وتمويل عدد من المشاريع الإنمائية، ومنها بعض الصناعات الأساسية كمحطات توليد الكهرباء، ومصانع الأسمدة وتكرير النفط وغيرها. (أوقفت هذه الاتفاقات بعد قيام الوحدة السورية المصرية).

في عام 1959 وُضعت الخطة الاقتصادية الأولى للجمهورية العربية المتحدة (بعد الوحدة السورية المصرية عام 1958) لفترة 1960  1965 التي أعطت الدولة الدور الرئيسي في الاستثمار، وتركت للقطاع الخاص دوراً هاماً (بحدود 25% في مصر، و2,37% في سورية من المجموع. لقد بينت تقديرات نتائج الخطة الأولى هذه، أن الاستثمارات بلغت في سورية 1187 مليون ليرة، منها 9,18% تمويل خارجي أي ما يعادل 2,6% من الدخل الوطني لعام 1965. إلا أن الخطة تعرضت منذ البداية لظروف مناخية قاسية جداً أدت إلى انخفاض شديد في الإنتاج الزراعي. وبالتالي في الصادرات وموارد القطع الأجنبي، إضافة إلى ذلك وقوف القطاع الخاص موقفاً عدائياً من الخطة وتهربه من تنفيذ حصته في الاستثمار، مما خلق مصاعب اقتصادية شديدة، ودفع الحكومة السورية إلى اللجوء إلى صندوق النقد الدولي عام 1962 (بعد الانفصال) بشروط تطبيق برنامج تصحيح اقتصادي وخفض قيمة الليرة السورية. وعلى هذا الأساس مُنحت سورية قرضين (ستاند باي) بقيمة 15 مليون دولار، وخفضت الليرة بنسبة 6% لتتعادل مع قيمتها في السوق (6).

حددت الخطة الخمسية الثانية (1966  1970) في سورية القروض الأجنبية بنسبة 5,32% من مجمل الاستثمارات. لكن النسبة الفعلية لم تتجاوز 31%، في حين غطى الادخار المحلي الاستثمارات المحققة كاملة تقريباً في عام 1965  ،1966 فإن القروض والمساعدات الخارجية تدفقت على البلد إثر كارثة الخامس من حزيران ،1967 وكان معظمها من البلدان العربية، ثم من البلدان الاشتراكية. فقد بدأت الدولة تتولى إقامة المشاريع الكبرى بالتعاون مع هذه البلدان كالسد الكهرمائي الكبير على الفرات، واستثمار النفط وطنياً، وبناء الخطوط الحديدية.

اختصاراً، يمكن القول، بالنسبة لعقد الستينيات، إنه على الرغم من عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، والهزيمة العسكرية في حرب حزيران ،1967 وحرب الاستنزاف، فإن معدلات الاستثمار والنمو بقيت في حدود معقولة نسبياً على الرغم من (أو ربما بسبب) ضآلة حجم التمويل الخارجي، إذ بلغ النمو الصناعي في سورية نحو 9% سنوياً. (7).

ونستطيع من استعراضنا السابق أن نستخلص بعض النتائج:

 إن الظروف الخارجية الملائمة لعبت دوراً هاماً في تحريض الإنتاج والتصدير وتوفير القطع الأجنبي اللازم لتمويل التراكم الرأسمالي. لكن، في الوقت نفسه، كانت الشروط الداخلية ملائمة جداً للاستفادة من تلك الظروف الخارجية. وخصوصاً توفر عناصر الإنتاج المحلية (أراض خصبة واسعة للزراعة، قوة عمل غزيرة، توفر رأسمال نقدي وتكنولوجية مستوردة، سوق محلية جائعة وإن محدودة، سياسة اقتصادية تشجيعية تقليدية). لذا فقد تحقق تراكم رأسمالي بمعدلات مرتفعة نسبياً، على الرغم من ضآلة القروض الخارجية ومن هجرة شديدة للرساميل إلى الخارج (10% إلى 15% من الناتج المحلي الإجمالي).

لكن تلك الشروط الاستثنائية التي سادت في الطور الأول لم تتكرر في الطور الثاني من المرحلة، وكان يصعب تكرارها.

 في الطور الثاني من المرحلة، تم التعويض، ربما جزئياً، عن العوامل الإيجابية المفتقدة السابقة، باللجوء إلى التخطيط وتجنيد جزء كبير من الفائض بيد الدولة، وخفض الاستيراد والاستهلاك والحصول على قروض ومساعدات خارجية. لكن هذه القروض جاءت بشروط ميسرة وبقيت محدودة نسبياً، فلم تتحول إلى مديونية يصعب على الاقتصاد الوطني الوفاء بها. وبقي العجز في الميزان التجاري، كمؤشر للتبعية محدوداً نسبياً (25 -30% بصورة وسطية) وحافظت الليرة السورية على قيمتها خلال الستينيات وحتى مطلع العقد التالي، بالنسبة للدولار الأمريكي، كما تمت المحافظة على مستوى قدرتها الشرائية في السوق المحلية.

المراجع

1 جورج عشّي. الانتقال من الحرية إلى الرقابة في المبادلات التجارية السورية (1929  1947). جنيف 1949. صفحة 115.

2 د. رزق الله هيلانة، عن جان دوكرويه (الرساميل الأوربية في الشرق الأدنى، دار النشر الجامعية، باريس 1964 صفحة 368.

3 الثقافة والتنمية. صفحة 165.

 (4) المصدر السابق نفسه، حسب مجلة (تجارة الشرق) تشرين الثاني 1972 صفحة 23.

5 الدكتور رزق الله هيلانة، مقدمات اقتصادية لعصر منتهٍ، صفحة 186.

6 مجموعة مؤلفين: مصر في ربع قرن (1952  1977) معهد الإنماء العربي بيروت  ،1981 صفحة 305.

7 الثقافة والتنمية. صفحة 171 و285.

العدد 1140 - 22/01/2025