فذلكة الجهات

كلما تخيّلت خريطة جغرافية أمامي تهيَّأ لي أن الشمال فوق، والجنوب تحت، والشرق جهة اليمين والغرب جهة اليسار. الشمال فوق، والفوق راكب، الجنوب تحت، والتحت مركوب. اليسار غرب، والغرب متفوّق ويساري متحرر. اليمين شرق، والشرق متخلّف ويميني متعصّب. الشمال والغرب يعني التطور والحضارة، تبعاً لمقاييس معتمدة وغير دقيقة، وحسب تلك المقاييس فالجنوب والشرق يعني التخلف والتبعية.

أعود إلى مقاييس شخصية كوّنتها حسب معرفتي. الشرق مهد الحضارات، والغرب استعمار تاريخي. الجنوب مولد الجذور ومنشأ الكون. والشمال ضياع وانفلات. الجنوب يعني تحت، والشمال يعني فوق. وهذه الثنائية بمقاييس أرخميدية تظهر بوضوح قاعدة الجاذب والمجذوب، فالجنوب، تحت، جاذب. والشمال فوق، مجذوب. الغرب، حسب مقاييس شخصية أيضاً، يسار، واليسار ضعيف، على عكس اليمين القوي والشديد. وإذا كان الغرب واعياً، والشرق غافلاً، فهذا لا يعني بقاء الوعي وديمومة الغفلة.

الشمال والغرب استعمار رخو، والجنوب والشرق مقاومة شديدة وعنيفة. الشمال والغرب يعني تركيا وأوربا وأمريكا الشمالية، والجنوب والشرق يعني أمريكا اللاتينية وأشقاءنا العرب وأصدقاءنا الصينيين والإيرانيين، حتى أصدقاؤنا الروس هم على الطرف الشرقي لأوربا. هذا يعني بالمقاييس الشخصية ذاتها تعاطفاً ضمنياً مع الجنوب والشرق، وخصومة مبطنة وظاهرة مع الشمال والغرب. أعود إلى فذلكتي. من الشرق تنبع الشمس كل صباح، وتبتلعها شراهة الغرب كل مساء، الغيوم تأتي إلينا من الغرب لتكدّر صفاء شرقنا. الشمال ضياع، ومصطفى سعيد (بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح) سافر شمالاً ليعود منكسراً ومهزوماً. وشعراء المهجر الذين سافروا غرباً عادوا بأخفاف حنين، ومنهم من لم يعد. الغرب خسارة وفقدان وتشرّد، والشرق أصالة وإثبات وجود وارتكاز، بالطبع حسب مقاييسي الشخصية. الجنوب مركز ثقل الأرض، وموطن الجذور التي نبتت منها القارات. الشمال والغرب ائتلاف تجاري مصلحي، والجنوب والشرق اتحاد أصيل وعميق. الشرق مهد الديانات السماوية كلها، والغرب مولد الفساد والفسق والفجور. الشمال اقتراب من المناطق المتجمّدة، دماء وعقول باردة، والجنوب التصاق مع خط الاستواء، يعني الحرارة والاشتعال والتوهّج. أهل الشمال يعني بشرة بيضاء شفافة ورخوة كاللبن، وأهل الجنوب سمر وقساة كالتراب وجذوع الأشجار. ما زلنا طبعاً نقيس بمقاييسي الخاصة. الغرب شحوب وغبش وغموض، والشرق صفاء وجلاء ووضوح. الغرب والشمال زوايا حادّة، ودهاليز منفتحة إلى المجهول. الجنوب والشرق انفراج في كل شيء.

هما محوران متناقضان، ومعسكران متعاديان. لا أحد يشكّ في ذلك. وهذا طبعاً ليس بمقاييسي الشخصية. وإن كان سيضحك كثيراً من يضحك أخيراً. فلا أشكّ أننا سنضحك (ليس كما يرى الكبير زكريا تامر) وإنما كما تشير دلائل التاريخ، وتحولات الحاضر.

العدد 1140 - 22/01/2025