عن الموز والإمبريالية

ما هي أوجه الشبه بين الموز والاستعمار؟

هناك الكثير.

فالأمريكان سموا جمهوريات أمريكا اللاتينية بجمهوريات الموز، وقد ظلوا يستثمرون هناك في الموز حتى صاروا لاحقاً يستثمرون في الدكتاتوريات مع منافسيهم الفرنسيين والإنكليز.

وقد وثّق غابرييل غارسيا ماركيز لمذبحة عمال مزارع الموز في كولومبيا عام ،1928 حين قمعت القوات الحكومية مظاهرات العمال المطالبة بحقوقهم في رائعته (مئة عام من العزلة)….المذبحة التي جرت في العتمة كما كل المذابح، وكانت ستطوى من تاريخ البلاد لولا ماركيز والأدب الذي يروي تاريخ الناس، فيما كُتب التاريخ الرسمية والأنيقة تبيّض سِيَر الطغاة واللصوص الذين اشتروا  مؤرخين كتبوا التاريخ كما يريد هؤلاء، أما الأدب فلا يشترى ولا يباع ولا يحدُّه طاغية ولا لص ولا فاسد، رغم وجود أدباء سلاطين ووعاظ سلاطين في كل زمان ومكان.

وما زالت (الويلات) المتحدة الأمريكية  كما يسميها صديقي الفنان رائد خليل  ترى في تلك البلدان مزارع خلفية لها. و تكمن المصيبة في أن بعض من تمرد على ظلم الولايات المتحدة وسطوتها من قادة تلك البلدان قد مارس ظلماً وعسفاً لا يقل بشاعة عنها. لكن على شعبه، وكأن قدر الشعوب المبتلية بالداء أن تختار بين مستبد فاسد ناهب وطني يبيعهم الكلام والشعارات، وبين محتل غاشم ظالم ناهب لا يبقي ولا يذر.

***

والموز شكل من أشكال الاستعمار الروحي في أزمنة القحط هذه.. فحينما يطلبه طفلك تدخل برزخ الخوف، حينما ينصح به طبيب لك أو لأحد أفراد العائلة السعيدة، تتمنى لو أن الله لم يخلقك سورياً.

مثلاً لو كنت صومالياً لكان الموز ربما متاحاً أكثر من هنا، أقول ربما لأني لا أستغرب  بل أكاد أجزم  أن المواطن الصومالي الأبي محروم من الموز الصومالي، لأن الشركات المتعددة الجنسيات تقوم عنه بالمهمة، تقطف عنه وتقشر عنه وتأكل عنه أيضاً.

هنا يجبرك الموز على خدش وطنيتك حين تتمنى أن تكون صومالياً أو بورتوريكياً أو إكوادورياً مثلاً. ولسان حالك يقول: الوطن غال، لكن الموز أيضاً غال.. وألف قرن موز ولا يقولوا أبو عمر خان يا خديجة!

***

أذكر أنه في ثمانينيات القرن المنصرم، فترة ما سمي بالحصار الإمبريالي على سورية، عندما كان راتب (أكدع) موظف لا يزيد على ألفي ليرة سورية، كان ثمن كيلو الموز المهرب من لبنان 100 ليرة سورية، وكانت قنوات التهريب معروفة ورؤوسه معروفين وممنوعين من الصرف، بل وحتى ممنوع ذكرهم….حتى جاء الانفتاح الاقتصادي وجعل الموز يعيش وفق قوانين السوق الرأسمالية، فيصير أحياناً بسعر البندورة  مع اعتذاري الشديد من البندورة التي أصبحت من الخضار الفاخرة بفضل الحكمة والعقل اللذين جعلا بندورة حوران جزءاً من الذاكرة   وأحياناً يستعيد بعض كرامته المهدورة.. لكن الآن نعود إلى ما هو أسوأ من أيام الحصار تلك التي جنى ثمارها كثير من الرفاق المناضلين الممنوعين من الذكر…نعود إلى زمن أمراء الحرب، والموز صار حلماً عصياً على الفقراء وحتى على الطبقات الوسطى المنحدرة سريعاً إلى الأسفل.

***

الموزة الواحدة تسمى قرناً، نسبة لشكلها القريب من قرون  بعض الكائنات التي طلع لها قرون دون أن تمر بعمليات الاستعمار و(الاستحمار) التي تعرَّضَ لها المواطن السوري طوال عقود، ولم ينبت عنده ولا قرن موز.

تحضر من الذاكرة القريبة مشاريع واعدة رطن بها رؤساء حكومات ونواب ووزراء وخبراء عن نجاح تجارب استزراع الموز في سورية، وأموال لا يعرف عددها إلا الله صرفت لتحويل الموز إلى منتج وطني،  وكانت النتيجة ازدياد الاستيراد، ولم يُسأل أحدٌ عن أسباب  فشل التجربة، ليس انتقاماً ولا تشفياً بل لنستفيد منها في المرات القادمة، فلربما يخطر على بال مواطن سوري مدلل أن يجرب مذاق الموز السوري يوماً.. ولم يُحاسَب أحدٌ كما يحصل في البلدان الإمبريالية الحقيرة، كأن يستقيل مسؤول ما ولو من الدرجة العاشرة، لأنه يتحمل مسؤولية الفشل في هذه التجربة وسبّب خسارة للبلد.

العدد 1140 - 22/01/2025