صول ولا

الوقت بين الغروب والمساء… خيوط أخيرة هاربة من الشمس تمزج ظلام الغرفة ببعض النور.. نافذة مفتوحة على قدر ثلاث أصابع.. تتسلل منها نسمات الهواء… لتراقص الستارة البنفسجية الشفافة التي تتمايل بدلال…. والنسمات ذاتها قد أزعجت صديقنا العود المعلّق على الجدار… فارتعشت أوتاره وانتفض مستيقظاً…لاعناً النسمات والشمس والكوكب من حوله..

أدار نظره نحو (الروزنامة), وقال:

(نعم… بتمام اليوم يكون قد مرّ شهورٌ تسعة على شللي هذا.. أنا الآن مجرد صورة مصلوبة على الحائط… لا بل للصورة عمل أفضل مني… أكره عجزي… وأكره سكوني…).

تنطر إليه آلة تصوير جيهان المتربعة على الطاولة وتقول:

لكنّك يا صديقي كنت دوماً محرّك الجلسات والسهرات ومحط إعجاب الفتيات… وما حال سكونك هذا.. إلا حالة مؤقتة لو عاد كل شي كما كان….

ليتني أستطيع أن أعودَ لأيامٍ خلت.. إلى أيام كنت أراقب تدريباتك أنت وجيهان.. آه لو تعلم كم كنت أحسد صداقتكما… إلى الآن كنت أذكر اليوم الأول لقدومك هنا قبل ثلاث سنوات…لقد كنت ممتعضاً…عابساً…أوه أتذكر…أتذكر..!!!

يهمهم العود (نعم.. نعم أذكر، كم كنت في مقت لجيهان في ذاك اليوم… لقد طار عقلي يومذاك وهي تحاول إعطاء تسمياتٍ لأوتاري…كنت في ذاك اليوم أقول في نفسي وبغضب: كيف تجرؤ هذه الفتاة أن تجزّئني هكذا؟؟!!

الحمقاء تقول إنّ وتري الأول اسمه صول…وتكرره على مسامعي صول صول

في المنتصف ري..ري..

الذي يليه..لا…لا…

أي لا وألف لا لمحاولتك تجزئتي… بدأت أشتمها.. أوبخها.. أصرخ.. لكنها لا تسمعني وتتابع…

كم كان صعباً عليّ أن أفهم أنها كانت تحاول فهم تفاصيلي… وأنها بمحاولتها تلك كانت تمدّ لي جسوراً لفهم ذاتي… لقد كانت تبعثرني لتجمعني من جديد.. إنها الخطوات لفهم التفاصيل.. لجمع المفقود وإعادة صياغته)

ولكني الآن حتى هذه اللحظات القاسية أنظر إليها بحنين منقطع النظير بعد… بعد أن…

يسكت العود ويسمع همهمات صوت الآلة التي توحي ببكاء مكبوت…

صوت الرعد يقطع حديثهما… وتخرج الآلة إحدى الصور من ذاكرتها المخزنة وتقول: انظر ها هنا… هذه أحبّ صورة الى قلبي… لكما أنت وجيهان…

تتوسع حدقتا العود ويقول: يا الله… يا الله أيتها الملعونة… إنك تعرفين كيف تعثرين على أكثر الذكريات ألماً وحباً وقرباً وشوقاً… هذا يوم الحياة، قبله شيء.. وبعده شيء آخر تماماً..

في ذاك اليوم كانت الغرفة تعبق برائحة النعنع المغلي…. وزخات المطر تضفي على المكان لحظات جنونية غارقة في السرمدية.. وجيهان تحاول أن تخرج المقطوعات من أعماق روحي….وأنا غاضب من هذا الكائن الآخر الذي يحاول أن يتعامل معي…. وسأعترف لك أني يومذاك كنت أدسّ سم غضبي وأنبّه أوتاري أن لا يتجاوبوا مع محاولاتها…. وكان هذا يظهر بنشاز في مقطوعاتها…إلى أن وصلت إلى مرحلة تشنجَ كلُّ شيء فيَّ… وانقطع أحد أوتاري

نظرت إلى عينيها… رأيتهما محمرتين… متوسعتين… أحسست أنّ نهايتي قادمة لا محالة…. وأنها ستحطمني…. صرخت: رباه!!

سأتحول لقطع متناثرة.. أغمضت عيني وأنا مستعد للقاء حتفي.. وبدأت أتمتم بجميع الصلوات التي تعلمتها عبر حياتي القصيرة… فجأة بدأت أشعر بشيء بارد ينساب على جسمي…. اعتقدت أنها قطرات الندى العالقة على السحب قد بدأت تلامس روحي الصاعدة للسماء… فتحت عيني لأجد دموع جيهان تنهمر على ضفاف جسدي…. وقد بدأت تتمتم بكلمات: (لا تقلق…. سنصلح ما تضرر…. لا تقلق إنك بخير…).

لأول مرة في حياتي أشعر أن غضبي مفهوم.. وأنه لن يقابل بالتوبيخ واللوم…

لقد تفهمتني بكل ما أثقل روحي من غضبٍ… وقلق…. وشعوري بالغرابة مما يجري حولي…

تقول الآلة ونيران الغيرة تشتعل منها: بالرغم من غيرتي منكما لكني كنت سعيدةً بجميع الأوقات وأنتما معاً… أتذكر كيف أيقظتما في إحدى المرات جميع الأشياء النائمة في الغرفة عندما كنتما تتدربان على عزف.. (بنت الشلبية) وتضحكان على كل عثرة فيها…

وذاك اليوم الذي بكيتما معاًً بعد أول وقفة على المسرح وعزف (عودت عيني على رؤياك)…. في ذاك اليوم قلت لي…. إنك كنت تشعر أنك أبحرت لأعمق نقطة داخلها وأنتما ترقصان معاً… لبعث النغم المشترك….

يقول العود:

لكن الآن هذه الحديث لا فائدة منه، فجيهان مختفية منذ ما يقارب التسعة أشهر… ضوضاءٌ تدنو من الباب.. هو وآلة التصوير والنافذة شبه المفتوحة والرفوف على الجدران.. جميعهم تأهبوا… إنها قادمة… يفتح الباب فإذا بامرأتين.. العجوز صاحبة البناء… والأخرى غريبة…. تقول العجوز: تفضلي يا عزيزتي…. هذه الغرفة أصبحت لكِ منذ الآن… فصاحبتها لم تعد موجودة بعد الآن…. تتمتم العجوز (وكما كانت تقول لي جيهان: لا شيء يدوم للأبد).

تدمع عيون كل الأشياء في الغرفة بأول لحظة…عدا عينا العود…. تلتقيان بعيني الزائرة الجديدة ثم تدمعان….

العدد 1140 - 22/01/2025