التسوّل
شوارع دمشق والمدن السورية، التي تعيش يوميات الحرب من أصوات المدفعية والصواريخ والطيران الحربي والهاونات التي تمطر على دمشق بعد تأخر مطر السماء، تعاني ازدحاماً ليس فقط في حركة السير بسبب الحواجز المتناسلة، بل في حركة المتسولين والمتسولات أيضاً، مع غلبة الفئات العمرية الصغيرة..
متسولو زمن الحرب لا يكتفون بسؤال أصحاب السيارات الخاصة أو المشاة الذين تبدو على محياهم النعمة والجاه..بل يلحقون (المعترين) الذين يستحقون الصدقة أكثر منهم، وركاب السيارات العامة (التكسي) والسرافيس، ما إن يتوقف سرفيس على إشارة مرور أو حاجز وهي وقفة طويلة بطبيعة الحال حتى يتوافد المتسولون والمتسولات، وعبر النوافذ يطلبون من ركاب السرفيس المساعدة، فيما الركاب مختنقون في علبة سردينهم وفي حياتهم التي يعدون أيامها وهم يعاندون الحرب والفقر والنزوح..
أينما وليت وجهك، في الشوارع، على إشارات المرور، في المقاهي والمطاعم ما بقي منها على قيد الحياة تحت الجسور وفوقها، من جسر الثورة إلى جسر الرئيس، لا تكاد تقنع شحاذاً أنك لا تقل بؤساً عنه حتى يأتيك آخر..
***
في المقهى المليء بضجيج الزبائن تدخل المرأة الخمسينية، بصوت تبدو عليه آثار التدخين الطويل، تطلب حسنة، حين نعتذر بسبب نفاد (المونة)، تبدأ بالدعاء علينا: (الله يعمل فيكن متل ما عمل فينا).. قلنا لها: والله عمل وكتّر يا خالة…
وتعيد الدعاء نفسه على كل طاولة لا تعطيها ضريبتها.. ربما كان بؤس الحال هو ما دفعها إلى هذه الطريقة الحربية في التسول، أو ربما كانت طريقة مبتكرة من (المعلم)، إذ هناك حالات كثيرة يقوم شخص واصل بتشغيل وحماية مجموعات من المتسولين وتوزيعهم في مناطق المدينة والإشراف الدائم عليهم.. ولا يبقي لهم إلا ما يقيم أودهم.. وهذا من أفظع أنواع الاستغلال..
***
تسوّل ذكي..
تاجر كان يسافر إلى حلب لشراء بضاعته ويقيم هناك لأيام عند صديقه التاجر الحلبي في سبعينيات القرن الفائت روى هذا الحكاية: ذهبنا إلى الجامع أنا ومضيفي الحلبي لأداء صلاة الجمعة، وفور انتهاء الصلاة، وقف رجل كان يشاركنا الصلاة، ومد كوفية بيضاء أمام الجامع لتنهال عليه القطع النقدية.. مددت يدي لأعطيه ما تيسر، فأمسك مضيفي بيدي وأخرجني… سألته عن السبب فقال: لننتظر هذا الرجل حتى ينتهي من (عمله) وسأريك سكنه وحالته.. انتظرناه ثم لحقنا به، حتى دخل بناء فخماً، بعد قليل طرقنا بابه ففتح لنا الباب وهو يلبس ثياباً فاخرة، سألناه عن الرجل المتسول الذي دخل قبل قليل إلى المنزل بذريعة أننا نريد أن نعطيه مالاً من زكاة أموالنا، فنظر إلينا مبتسماً وقال: أنا هو الرجل، وهذا منزلي، بل إنني أملك البناء كله، لكن التسول أصبح مهنة لا أستغني عنها، ولدي خبرة ودراية بفنونها، انتظروني يوم الجمعة القادم لأريكم ما سأفعله، نادى زوجته وأخذ منها كيساً من الليرات الذهبية قائلاً: ستكون هذه هي عدة الشغل الجمعة القادمة..
في الجمعة التالية جاء الرجل إلى شيخ الجامع وأعطاه كيس الذهب مدعياً بأنه عثر عليه، ويرجو من الشيخ أن يطلب من صاحبه علامات قبل أن يسلمه، نادى الشيخ عبر مكبر صوت الجامع قبل الصلاة عن وجود كيس مفقود فيه مواد ثمينة على صاحبه أن يأتي إلى الجامع، بعد قليل جاءت زوجة الشحاذ التي لا يعرفها إلا الرجلان اللذان كانا عنده في المنزل، أعطت العلامات الكاملة للذهب وأخذت الكيس شاكرة إمام الجامع والرجل النبيل الذي رغم فقره لم يمد يده إلى المال الحرام.. وأثنى الشيخ أيضاً على مروءة الشحاذ ونبله، وما إن انتهت الصلاة لذلك اليوم حتى انهالت الأموال على الشحاذ الذكي، مكافأة له على نبله واستقامته رغم الفقر والحاجة اللذين يدفعانه إلى التسول ولا يمد يده إلى المال الحرام.