قمة للإبداع.. «الانحياز» مثالاً!

ستبدو مقولة الانحياز نافلة بالضرورة، فبلا أدنى شك لن تذهب بنا إلى ما عرف بقمة عدم الانحياز وبالقمم الأخرى التي تأخذ فيها الدول اصطفافات سياسية أو اجتماعية أو فكرية وغيرها، وجوهر ما نشير إليه وما نعنيه هو الانحياز للإبداع، فهل يستوي طرحنا هنا بوجوب قمة للإبداع يعلن فيها المبدعون انحيازهم للإبداع وعدم انحيازهم للقبح والهشاشة والركاكة وكل ما يقوض اللغة والمعنى للإبداع، والمخولون بهذه (القمة) هم عمال الكلمة وسدنتها وحارسوها وأشقياؤها والمهجوسون بها والحالمون بها ومن تنفطر قلوبهم على انحسار لغتهم! إذن في  حال اجتمعوا وقرروا أن يجتمعوا على الأرجح أنهم سيعلنون مجدداً كما أعلنت رؤى أفذاذهم ما يلي: الانحياز (للإحفورات) القديمة الحية المتجددة وللرُقم لأنها في مركب الحضارة وفي مهادها الأول، سيعلنون الانحياز للأشجار التي تموت واقفة، والتي يشبّه لبعضهم أنها تموت لكنها هي الباقية كحزم الضوء في حلكة الطريق، الانحياز للقمم العالية السامقة التي تتوسلها الطيور الجريئة، التي لا تغويها أعشاب الطريق وطحالب الماء المنتشرة بكثافة على حواف يومياتنا، الانحياز للمآذن والكنائس حارسة النداء الأزلي، الانحياز لسقراط وللمتنبي ولابن المقفع ولشكسبير.

المتنبي الطفل قبل أن تذبل حروفه وقبل أن يميته لصوص طريق عابرون، ولشكسبير قبل أن يصر الجميع على سؤاله: في أي جامعة تخرجت؟ الانحياز للشعر مبرأ من اللا شعر، وليس ثمة انحياز للا شعر الذي يسعى بعضهم لأن يكتشف فيه نصوصاً جديدة، نصوص الحالة الفريدة وما زالوا حتى اللحظة يتوسلونها. الانحياز للوقت حارس الأشياء والحيوات والكلمات، إذ لا وقت يمر هكذا دون أن يفكر بنا ودون أن نقول له خذ ما نشاء وليس خذ ما تشاء أنت. الانحياز للإبداع هويةً وجيناتٍ راسخةً كلون التراب وثبات الحجارة. الانحياز لمن تهز سرير القصيدة بيمينها وتكتبها القصيدة على سطور النهارات المتسارعة ليس إلى حتفها بل إلى بدئها المنشود. الانحياز لضوء الفاكهة كيف تجذبه كلمات الصحو وحروف النداء ليصير مثل كل النهارات التي تأتي من الغياب كفرح المعنى. الانحياز للفرح المسروق من عيون تلاميذ بلادي، ولسوريالية الفراشات في امتحانها لأولى خطوات الضوء كيف تصير في مجاز شاعر كلمات. الانحياز للمشي على جمر الطريق، فالطريق تدل الخطا إليها. بالطبع ليست قمة السياسيين والمثقفين والأنثروبولوجيين لكي يعدّوا أوراقهم وخطاباتهم وترنيمات خطواتهم في ردهات الكلام، لكنها قمة من يسهرون في ضوء أرواحهم ليقولوا كلمة هي وطنٌ سيبقى مثل وطن الإبداع الذي لا هوية له سوى تاريخ أولئك الجوعى للضوء والنهار.

ليت الشعر يولم كل فاكهة ضوئه لمن عثرت بهم قارعة الطريق، قارعة الأمل، الشعر بوصفه رؤيا وليس بوصفه حادثاً صغيراً في مفترق الكتابة، وكذلك ليت الرواية تصبح رؤية وليست اختزالاً فقير الدلالات لعالمٍ سمته الضجيج وصخب المعنى، وليست دعوة للمتزلجين على سطوحها بدعوى أن تلك السطوح ملساء، وإن اكتشفوا صعوبتها ينأون إلى الوراء ويشيحون بأبصارهم، أن الأمر لا يعنيهم. قمة للإبداع تعني، في مساراتها ومآلاتها هوية من يحضرون غيابهم، وأن يكون سفيرهم الألم، (وبكثير من الألم وقليل من الأمل)، ولن ننشغل حقاً بوقت انعقادها، ما دامت فكرة، حلماً، وغالباً ما تصبح الأحلام واقعاً، شريطة أن من يؤمن بها يسير لتحقيقها، فالأفكار مطايا الظنون كما يقولون، والأجمل منها أن يكون جنون الأمل حاضراً بممثليه المرموقين…

العدد 1140 - 22/01/2025