أبلوموف… يطاردني..!
بالرغم من كل الشوارع والممرات، والأرصفة والتحويلات، والمحطات والاستراحات، والمقاهي والملاهي، ودور السينما، ودور العبادة، ودور الأوبرا، ودور الأيتام، ودور العجزة، والساحات العامة، والساحات الخاصة، والساحات الملتهبة، والجبال، والوديان، والصحاري، والمروج، والسهول، والكروم، والبساتين، والحقول، والغابات، وإشارات التحذير من الحرائق ومن السرعة الزائدة والمنعطفات، ومن المطبات، ومن التلوث والتدخين السلبي والإيجابي، ومن إرشادات تنظيم الأسرة، وإرشادات قيادة العربات، إلاّ أنني حتى الآن لا أعلم أين أقف، ولا من أين أعبر، ولا كيف أنام، ولا متى أستيقظ، ولا كيف أقرأ، ولا كيف أكتب، ولا عمّا سأكتب، ولا أجد الألوان المناسبة للكتابة، ولا البياض القادر على استيعاب هذياني وأفكاري، ولا الأفكار المناسبة لهذا الزمن، ولا الزمن المناسب لهذه الأمة.
أنظر حولي في كل الاتجاهات فلا أجد شارعاً إلاّ وقد أتخمه الازدحام، ولا أجد ساحة إلاّ وغصّت بالعربات، ولا أجد جداراً إلاّ وقد أثقلته النعوات، أو الصور والإعلانات، للمطربين والمطربات، والراقصين والراقصات والمغنين والمغنيات، ولا أجد حديقةً إلاّ وسورها من العاطلين عن العمل، ولا أجد معبراً أو رصيفاً إلاّ وعليه آلاف الكتب من روايات ومسرحيات وقصص وشعر بأنواعه وخواطر أدبية ومقالات سياسية وأطروحات في الاقتصاد والفلسفة وعلم الاجتماع والفن والموسيقا والتنجيم والتبصير.
وتحت وطأة ذلك أصبحتُ كالضباب الذي يطارده الهواء من وادٍ إلى واد، فأنام وأنا مستيقظ، وأستيقظ وأنا نائم، وأحفظ كي أنسى، وأنسى كي أحفظ، وأمشي وأنا في سريري، وأرقدُ وأنا مطارد خاوي الأمعاء، فيما تمتد حولي المحلات العامرة بمختلف صنوف الأطعمة والمأكولات التي تعرضها الشاشات من الكباب المتعدد الجنسيات والنكهات، إلى الشيش طاووق، والشيش برك، والهمبرغر، والبيتزا بمقاساتها وحجومها، إلى الشاورما بأنواعها، إلى الفتّات بأشكالها، إلى الحلويات المختلفة من كاتو، ومبرومة، وبقلاوة، وإسوارة الست، وإسوارة العروس، والمشبّك والآيس كريم. ولكنني حتى الآن لا أجد نفسي إلاّ وأنا أحاصر سندويشة الفلافل بيديّ وأسدها من أسفلها خوفاً من تسرّب بعض محتوياتها القليلة بعد أن باتت ضرباً من الرفاهية، وأمرُّ من أمام المحلات المخصصة لبيع كل ماهو (مودرن) وأنا أردّد أغنية الراحل فريد الأطرش (ما ليش أمل ياحبيبي فيك غير إني شوفك بعينيّ) لأعود وقد أرهقني المسير، بالرغم من كل السيارات الحديثة، الفورد، والكيا بأشكالها، والهونداي بأنواعها، والمرسيدس القديم والمعدّل، والرانجات المفيّمة وغير المفيمة، وتلك التي لا أعلم اسمها ولا بلد المنشأ ولا سنة الصنع ولا طبيعتها من الداخل.
أحلم بدقيقة من النوم، فلا أجد السرير المناسب لآلام ظهري، بالرغم من كل أنواع الأسرّة الحديثة الخشبية أو المعدنية بنوابض أو دونها، وكل أنواع الوسائد والحرامات الناعمة، ولكن حتى الآن أستيقظ لأجد نفسي أرتجف دون معرفة السبب بعد أن انطبعتْ بجواري على الأرصفة الضيّقة آثار الأحذية لآلاف العابرين، بالرغم من أنني أكتبُ وأنا بكامل قواي العقلية، والجسديّة، والحسيّة، والشعوريّة، والغريزية، والعاطفية، والانفعالية، والمسؤولية، واليقظة في الضمير، والبصر والبصيرة، وفي المعرفة والتفكير. إلاّ أنني حتى الآن أحسُّ نفسي ك (أبلوموف) راقداً في هذياني أبحثُ عن حذائي الذي كلّله الغبار منذ عشرات السنين..!؟