عصر التكنولوجيا.. ماذا بعد؟!
ولىَّ عصر الآلة.. ومقولة الإنسان بات كالآلة والتي ترمز إلى تفكك الروابط الاجتماعية وغلبة العلاقات النفعية والأنماط الروتينية على حياة الإنسان مازالت مُنطبقة على الواقع المُعاش.. ودخلنا عصر التكنولوجيا والتكنولوجيا الذكية.. لتظهر في هذا العصر مئات آلاف العوالم الافتراضية.. فهل سيكون ما بعد عصر التكنولوجيا، عصر العوالم الافتراضية؟!.. وهل سنقول بوجود حياتين للفرد.. حياة حقيقية، وحياة عقلية افتراضية؟
إن الأقراص المُدمجة التي تحتوي العوالم الافتراضية هي السلعة الوحيدة التي يباع منها في اليوم الأول لطرحها في الأسواق ما لا يباع من أيِّ سلعةٍ أخرى.. فما سرُّ هذا التهافت.. وإلى أين سيقودنا خاصة وأنه في وتيرةٍ متزايدة بشكلٍ مرعب.. لنلقِ نظرة على إحصائيات أجريت في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
أرباح أهم الشركات المصنعة للعوالم الافتراضية لعام 2010:
1- شركة (نينتدو) اليابانية احتلت المركز الأول حيث وصلت أرباحها إلى 15.75مليار دولار.
2- شركة (سوني كومبيوتر إنترتيمنت) اليابانية بلغت أرباحها 4,13 مليار دولار.
3- شركة (مايكروسوفت جيم استديوز) – الولايات المتحدة الأمريكية (12.82 مليار دولار).
والقائمة تطول.. ومن الظواهر التي لا تدعو إلى التفاؤل، والتي وقعت في العقد الأول من هذه الألفية هي حُمى الإقبال على ذلك المُنتج الذي لا يوجد سببٌ منطقي لاستهلاكه، لا بل إنه هو الذي يستهلكنا ولسنا نحن من يستهلكهُ.. فكم من شابٍ يُمضي النزر اليسير من يومه يحقق إنجازاتٍ وهمية في عوالم افتراضية، ثم يعود إلى واقعه ليُحدث أقرانه عن تلك الإنجازات وهو يحمل من ذلك العالم الافتراضي ألم الظهر وضعفاً في البصر وشعوراً بالمجد يُقعده عن تقديم الفائدة لنفسه ولمجتمعهِ..
حققت النسخة الخامسة من لعبة Grand Theft Auto GTA مبيعاتٍ قياسية تجاوزت 800 مليون دولار في اليوم الأول من طرحها في الأسواق، حسب شركة Take-Two المنتجة للعبة.. وطرحت اللعبة في جميع الأسواق حول العالم، عدا البرازيل واليابان.. وقدر محللون أن 14 مليون نسخة من اللعبة بيعت في يومها الأول.. ووقف متحمسون لألعاب الفيديو في صفوف طويلة ليلة الأربعاء أمام محلات بيع الألعاب للحصول على نسخ من اللعبة، علما أن 7 ملايين نسخة كانت قد حجزت مسبقا قبل الإطلاق الرسمي.. وكانت لعبة Grand Theft Auto محط انتقادات كبيرة من تربويين وعلماء نفس لما تتضمنه من عنف وعري.
هذا الخبر نقلته مئات وسائل الإعلام حول العالم.. وهو يُعبر عن ظاهر في ازديادٍ مستمر، فهل تكاثر العوالم الافتراضية حولنا وبيننا هو نتيجة طبيعية لعصر ما بعد الحداثة الذي اتسم بالاضطراب الاجتماعي والفوضى الشاملة مقارنة مع العصور التي سبقته؟.. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا.. هل الذات التي صارت في هذا العصر حُرة ومبعثرة وفصامية أوجدت نطاقاتٍ أخرى فوق واقعية لتمارس شكلاً من أشكال الفصام المركب؟.. وهل صدق رولان بارت حين قال: (إن النظام بات عدواً للإنسان بعد أن كان سبيل تقدمه وسعادته)؟ فكانت النتيجة عوالم تكرس الأنا وتتقعر نحو ذات مُرتادها ضاربة بعرض الحائط كلَّ نظام أخلاقي أو قانوني؟ فأشهر الألعاب في العالم هي تلك التي تُحفز العنف وتضجُّ بألفاظٍ مثل (أقتل – دمر – إسحق – اطعن..إلخ).
ما هو الفارق الجوهري بين شرود الذهن وأحلام اليقظة أو الذُهان المرضي وبين الولوج إلى العوالم الافتراضية؟
ربما لا يطغى على أحلام اليقظة والذهان المرضي العنف وإباحة ما هو غير مباح، كما هو الحال في العوالم الافتراضية المنتشرة حولنا اليوم.. لماذا كنا – منذُ بضعة عقود – نعتبر كثرة شرود الذهن والإفراط في أحلام اليقظة والذُهان العقلي.. مثالب وعيوب نخشى على أطفالنا منها، واليوم هي مباحة ومبررة رغم إيغالها في القسوة والوحشية.. هل يشكل هذا الإقبال على تلك العوالم هروباً جماعياً من الواقع البائس الذي تعيشه البشرية؟
إن كانت ميزة سن الشباب بالقدرات الجسدية، فأيُّ ظلمٍ هذا عندما يجلس الشاب والكهل أمام الحاسوب أو محطة اللعب لساعات، فيتساويان في عالم افتراضي يُبعد الشاب عن أن يعيش مستمتعاً بحيوية جسده.. وإننا لنجد في الدول الغنية التي تعاني من ارتفاع مستوى البطالة ارتفاعاً في مستوى المبيعات لكل ما يتعلق بالعوالم الافتراضية.
فإلى أي مدى يمكن أن تبعدنا العوالم الافتراضية عن حياتنا الطبيعية بكل ما تحتويه تلك العوالم من مُدهشات وفنون تُسمع وتُرى وتتضافر فيما بينها لتمنح ذواتنا الافتراضية أبعاداً فوق بشرية يغشاها مجدٌ أثيلٌ لا يناله إلا القليل من الناس في الحياة الواقعية؟ وهل ستستطيع تلك العوالم الخاضعة بجلِّ ما فيها لنا – ككائنات تتميز بالإرادة – انتزاعنا لساعاتٍ وساعات من عالمنا الحقيقي الذي تسير الأمور فيه بشكلٍ رتيبٍ وبإيقاعٍ بطيء نسبة إلى تلك العوالم المدهشة.. وإلى أي مدى سيؤثر ذلك على واجباتنا تجاه ذاتنا وتجاه الأسرة والمجتمع؟
أسئلة كثيرة بانتظار الإجابات في عصر التكنولوجيا (أُمِّ المفاجآت).