المصالحة الوطنية تعني الأمن والبناء
إن أهم ما تقدمه المصالحة الوطنية التي تتمُّ في المناطق المتوترة بعد وقف الاقتتال وصيانة ما تبقى من الدم السوري، هو عودة الأُسر المهجّرة إلى بيوتها وأحيائها التي تمثّل لها الانتماء الأول والأهم، فهذه البيوت تشكل ملاذاً آمناً يضمُّ بين جدرانه وزواياه ذكريات عمرٍ لا يمكن أن تتلاشى من ذاكرة أصحابها، مهما حمل الزمن من كوارث وأهوال، كتلك التي حملتها لهم الأزمة السورية التي عملت على تشريدهم ونزوحهم منها.
فمنذ الساعات الأولى لإعلان تلك المصالحة تجد الناس أفواجاً على مداخل تلك المناطق يريدون العودة إلى بيوتهم، رغم كل ما لحق بها من خراب ودمار، انطلاقاً من قناعة أن لا كرامة لأحد خارج منزله، مهما كانت الاستضافة كريمة معززة في أماكن الإيواء، علماً أن الكثير من أهالي تلك المناطق كانوا يعيشون في خيام لا تقيهم الحر والبرد.
ولأجل تعزيز تلك المصالحة وإعطائها صفة الديمومة والصمود، في وجه أية محاولات لاحقة لإشعال فتيل الأزمة مجدداً، لا بدّ للحكومة والمعنيين والقيّمين على إدارة تلك المناطق من نزع السلاح أولاً وقبل أيّ شيء من يد الجميع بلا استثناء، من أجل تدعيم أمن وأمان المواطنين العائدين إلى ديارهم، وبعد ذلك القيام بتأمين الاحتياجات الأساسية والخدمات بالسرعة الكلية، تعويضاً عمّا لحق بهم من أضرار وأذى نفسي واجتماعي من جهة، وكذلك لتعزيز بقائهم في مناطقهم وأحيائهم التي حُرموا منها قسراً من جهة أخرى، رغم أن معظم البيوت قد أصبحت أثراً بعد عين، وفي أفضل الأحوال قد تكون مهدّمة غير صالحة للسكن، وإن بقي منها بعض البيوت في حالة مقبولة فهي خالية وخاوية من كل أثاث، بفعل عمليات النهب والسرقة التي طالت تلك المناطق. وإلاّ ما معنى عودة الأهالي إلى أحيائهم في ظل كل ذلك الدمار والخراب الذي طال تلك الأحياء، وجعلها مناطق أشباح غير لائقة ولا مؤهلة للحياة الإنسانية.
من هنا نجد أن أوّل ما يتوجب على الحكومة تقديمه هو الأمن والأمان الحقيقيان بكل أبعادهما الاجتماعية والنفسية والأمنية- السياسية. إضافة إلى مساعدة الأهالي في استعادة الحياة مجدداً، بتأمين الاحتياجات الأساسية كافة اللازمة لإعادة ترميم أو بناء تلك البيوت، وكذلك فرشها بأثاث مقبول، بتقديم المساعدات والقروض المالية الميسرة الطويلة الأجل وبلا فوائد، أو إنشاء وحدات سكنية في المناطق ذاتها بشكل عاجل، على نفقة الحكومة بطريقة القروض الطويلة الأجل ذاتها. كذلك تأمين البُنى التحتية الأساسية، كالماء والكهرباء والخبز والمراكز الصحية، حتى لو كانت مراكز متنقلة، لأن بعض المراكز الصحية، الثابتة أو كلها، في تلك المناطق قد دمرت. إضافة إلى تأمين المدارس للطلاب بأية طريقة ووسيلة ترتئيها الجهات المعنية، لا سيما أننا في النصف الثاني من العام الدراسي الذي افتقد فيه الكثير من الطلاب مدارس تأويهم ولا تحرمهم تعليمهم. كذلك، يجب إعادة افتتاح المؤسسات والجمعيات الاستهلاكية وتأمين السلع فيها بأسعار رسمية ورمزية تساعد الأهالي على معيشتهم في ظل الغلاء الفاحش المخيّم أبداً على حياة جميع السوريين دون استثناء، فكيف بأولئك المهدّمة أحياؤهم وبيوتهم يفتقدون فيها لأدنى مستويات المعيشة والحياة الكريمة..؟ وعلى الحكومة ألاَّ يفوتها تأمين مراكز إعادة تأهيل نفسي- اجتماعي لأهالي تلك المناطق والأحياء، بحكم الأذى النفسي الذي عشش في نفوسهم وكيانهم، بتأثير كل ما جرى من اقتتال وتهجير ونزوح، وتأمين كوادر علمية مؤهّلة لذلك، من أجل استعادة أولئك المواطنين لتوازنهم النفسي والاجتماعي، كي يكونوا قادرين على التعايش وتحمّل تبعات ما أصابهم سابقاً، وكذلك لتسير إمكانية استمرارهم في التعايش مع ما سيجدونه من خراب ودمار طال عمرهم وانتمائهم بعد عودتهم إلى مناطقهم، إضافة إلى معالجة ما علق في النفس والذاكرة من أسىً وحزن على ما خرّب النسيج الاجتماعي السوري، بفعل اقتتال وتنافر الأهل والإخوة والجيران، في ظلّ أزمة ألقت بظلالها الكئيبة والحزينة الدامية على سورية والسوريين.
فإذا ما تحقق كل ما ذكرناه، من أجل تعزيز حياة أولئك العائدين إلى مناطقهم ودعمهم ومساندتهم، فسيكون لتلك المصالحة والتعايش معنىً تستحقه فعلاً، وإلاّ فسنكون مجتمعاً وأفراداً أمام أزمات إنسانية جديدة، ومشاكل اجتماعية لاحقة لا حصر لها، تُفاقم أزمات هؤلاء العائدين ومعاناتهم، رغم كل ما تحمّلوه سابقاً وما سيُلاقونه لاحقاً.
فهل للحكومة أن تعي فعلاً أهمية تلك المصالحة، وتعمل على تدعيمها وجعلها أنموذجاً إيجابياً يُقتدى به، في إطار إعادة الإعمار والبناء للوطن والإنسان..؟