لماذا كان كارل ماركس محقاً؟ (6)

الفصل الثالث

الماركسية شكل من أشكال البرجيّة، والناسُ أدواتُ التاريخ. وهي بذلك تسلبهم حرّيتهم وهويتهم الشخصية. فماركس يؤمن بوجود قوانين تاريخية حازمة ومحددة لا بدّ لها من أن تتحقق، ولا يقوى أيُّ عملٍ بشري على تبديلها. مصيرُ الإقطاع هو أن يُخلي المكان للرأسمالية ولا رادّ لحلول الاشتراكيةُ محلَّ الرأسمالية. وهكذا لم تكن نظرية ماركس سوى شكل من أشكال القضاء والقدر، وهي تنتقص بذلك من حرية الإنسان وكرامته.

يمكن أن نبدأ بالسؤال عمّا هو خاصّ في الماركسية. وعمّا يميّزها عن النظريات الفلسفية الأخرى؟ طبعاً ليست هي فكرة الثورة الموجودة قبل ماركس بأزمنة مديدة. وهو أيضاً ليس مفهوم الشيوعية ذو الأصول الأكثر قدماً بكثير. لم يكتشف ماركس الاشتراكية ولا الشيوعية. فقد طوّرت الحركة العمالية في أوربا أفكاراً اشتراكية، عندما كان ماركس لا يزال ليبرالياً. وفي الواقع، لا يمكن إيجاد أيِّ شيءٍ سياسيّ واحدٍ وحيدٍ تقريباً، مما يميّز تفكيره. وحتى فكرة الحزب الثوري ليست من بنات أفكاره، وإنما من تركة الثورة الفرنسية. وعلى كلِّ حال، لم يقل عنه ماركس سوى القليل جداً.

ماهو الوضع مع مفهوم الطبقات؟ هو أيضاً ليس بالجديد. وماركس ذاتُه يعترف بأنه لم يبتدعه. صحيح أن ماركس قد عمل على هذا المفهوم بدقّة كبيرة، لكنه ليس من اختراعه. وكذلك الأمر بالنسبة لفكرة البروليتاريا، فنحن لا ندين بها له، لأن بعض مفكّري القرن التاسع عشر قد عملوا عليها بإسهاب. كما أخذ ماركس فكرة التحوّل من شيء إلى شيءٍ آخر عن هيجل،. وبالمناسبة، فقد سبقه إليها الإيرلندي الاشتراكي والمناصر لقضايا المرأة وليم تومبسون. وكما سنرى، لم يكن ماركس الوحيد الذي ركّز على أهمية الاقتصاد في الحياة الاجتماعية. فهو يؤمن بمجتمع تعاوني خالٍ من استغلال المنتجين وخاضعٍ للرقابة الذاتية، وكان رأيه أنه يمكن تحقيق ذلك عن طريق الثورة فقط. وقد شاطره هذا الرأي في القرن العشرين الاشتراكي الشهير ريموند وليامز أيضاً، رغم أنه لم يعتبر نفسه ماركسياً. وتبنّى كثيرون من الفوضويين والاشتراكيين الأحرار ومؤيّدي تيارات مشابهة أفكار وليامز الاجتماعية، ولكنهم رفضوا الماركسيّة بشدّة.

جوهر مذهب ماركس يتألّف من فكرتين أساسيتين. تقول الأولى بأن الاقتصاد هو العنصر الحاسم في الحياة الاجتماعية، وتقول الثانية بتتابع طرق الإنتاج عبر كامل تاريخ الإنسان. ولكننا سنرى فيما بعد أن ماركس لم يطوّر أياً من هاتين الفكرتين. إذاً، ربما كان مفهوم صراع الطبقات من مميزات الماركسيّة؟ لا شكّ في أنه مفهوم مفصلي في بناء تفكير ماركس، لكنه أيضاً ليس من إبداعاته، كما لم يكن مفهوم الطبقات.

لنقرأ الآن بتمعّن السطرين التاليين من إحدى قصائد أوليفر غولدسميث بعنوان (القرية المهجورة):

المعطفُ الحريري الذي يلفُّ جسده ببهجةٍ سارّة،

سرق نصف محصول الأرض المجاورة

خيرُ الكلام ما قلّ ودلّ، لاشك في أن الشاعر قد عبّر بهذه الكلمات المقتضبة عن الظروف الاقتصادية السائدة آنذاك، والتي تعبّر بدورها ببساطة عن صراع  الطبقات. فحتى يلبس الإقطاعي الحرير، كان لا بد من ظلم المُرابعين. أو لننظر إلى الأبيات التالية التي نظمها جون ميلتون بعنوان  لو حصل كلُّ إنسان شريف يجوع الآن، على جزء معقول، وباعتدال، مما كان يُسرف في استهلاكه على الرفاه والترف، لكانت خيرات الأرض كافية للجميع، بالعدل.

ويعبّر الملك عن مشاعر مشابهة. وبالفعل فقد اقتبس ميلتون هذه الفكرة عن شيكسبير. أما فولتير فقد آمن بأن الأغنياء يمصّون دم الفقراء، وأن المُلكية هي السبب الأعمق لجميع المشكلات الاجتماعية. وكما سنرى بعد قليل، فقد عبّر جان جاك روسو أيضاً عن رأي مشابهٍ تماماً. وهكذا، فإن مفهوم صراع الطبقات أيضاً، كما عرف ماركس ذاتُه جيداً، ليس من بنات أفكاره.

ومع ذلك، يحتلّ صراع الطبقات هذا مكان الصدارة في تفكيره، لدرجة أنه يرى فيه القوة التي تسيطر على تاريخ البشرية، والمحرِّك الحقيقي لأي تطوّر إنساني وهي فكرة كان يصعب على ميلتون التوصّل إليها.

فبينما كان العديد من علماء الاجتماع يتعاملون مع المجتمع على أنه وحدة عضويّة واحدة، كان العنصر الرئيس الذي يشكل المجتمع لدى ماركس هو التقسيم، فالمجتمع يتألّف عنده من مصالح متبادلة ومتناقضة، وهو يخضع لمنطق النزاع وليس التماسك. وعلى سبيل المثال: من مصلحة طبقة الرأسماليين ضغط الأجور نحو الأسفل، بينما من مصلحة العمال زيادتها.

لنتذكّر تلك الجملة الشهيرة التي وردت في (البيان الشيوعي): إن تاريخ جميع المجتمعات حتى الآن، إنما هو تاريخ صراع الطبقات. لا يُعقل أن ماركس قد قصد هذا الكلام حرفياً. إذا كان واقع الحال يقول بأن تنظيفي لأسناني يوم الأربعاء الماضي هو جزء من التاريخ، فمن الصعب عليّ أن أتصوّر مدى علاقة ذلك بصراع الطبقات. وإذا نجحتُ في تسديد ضربة جيدة أثناء ممارسة لعبة الكريكت أو أنني أعشق طائر البطريق بشكل جنونيّ، فليس لكل ذلك بالضرورة أية أهمية كبيرة بالنسبة لصراع الطبقات. وربما علينا أن نفهم كلمة تاريخ، كما هي مقصودة في (البيان)، على أنها الأحداث العامّة، وليس الأمور الخاصة كتنظيف الأسنان. لكن، ألم يكن الشجار الكبير في الحانة المجاورة مساء الأمس حدثاً عاماً بما فيه الكفاية؟ إذاً، علينا أن نحدد مفهوم التاريخ بالأحداث العامّة الهامّة. لكن ماهو الهام، ووفق أي تعريف؟ وبأيّ معنى كان الحريق الكبير في لندن حدثاً من أحداث صراع الطبقات؟ ولو دهست غيفارا سيارة شاحنة، فلربما كان ذلك مثالاً على صراع الطبقات، لكن فقط في حال أن سائق السيارة كان مدفوعا من المخابرات الأمريكية  C.I.A وإلا لكان الأمر حادث سيارة عادياً. كما أن تاريخ اضطهاد النساء مرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ صراع الطبقات، ولكنه لا ينتهي عند كونه جزءاً من هذا التاريخ. وكذلك الأمر بالنسبة لأشعار وردزورث  أو سيموس هيني. لا يمكن لصراع الطبقات أن يشمل كلَّ شيء.

من المحتمل أن ماركس لم يقصد قوله ذاك حرفيّاً. ولا ننسى أن المقصود من (البيان الشيوعي) هو الدعاية السياسية التي لم تكن لتخلو من بعض التعابير الطنّانة. وبهذا المعنى يمكن أن يكون السؤال هاماً عن مدى شمولية التفكير الماركسي. يبدو أن بعض الماركسيين اعتبروه نوعاً من أنواع الصيغة العالمية، وهذا غير صحيح تماماً. وواقع الحال أن الماركسية لا تستطيع أن تقول لنا شيئاً هاماً عن ويسكي مالت أو عن كنه اللاوعي، أو عن عطر الورد الساحر، أو لماذا يوجد شيء وليس لا شيء، فهذه الأشياء ليست براهين ضد الماركسية التي لم يكن المقصود منها أن تكون فلسفة شاملة. فهي لا تفسّر لنا الجمال والشهوة، ولا كيف ابتدع الشاعر ييتس موسيقا أشعاره الذكية، وتتفادى إلى حد بعيد الحديث عن الحب والموت ومعنى الحياة. صحيح أنها شملت قصصاً رائعة عن بدايات الماضي حتى الحاضر والمستقبل، إلا أن هناك إلى جانب الماركسية قصصاً رائعة أخرى، كتاريخ العلوم وتاريخ الأديان والعلاقات الجنسية، يؤثّر ويتأثّر بتاريخ صراع الطبقات من دون الاستناد إليه فقط.

 بعض مفكري مابعد الحداثة يميلون إلى الاعتقاد بوجود إما تأريخ كبير أو تواريخ صغيرة، ولكنهم مخطئون، ومهما كان قصد ماركس، يجب ألا نفهم القول (تاريخ جميع المجتمعات حتى الآن هو تاريخ صراع الطبقات) على أساس أن أي شيء كان قد حصل، إنما هو قضية من قضايا صراع الطبقات. بل يجب أن ندرك أن صراع الطبقات هو المنحى الأساسي والأكثر أهميّة في تاريخ الإنسانية.

لكن أساسي وهام، بأي معنى؟ لماذا يجب أن تكون الماركسية أهم من تاريخ الأديان أو العلوم أو تاريخ الاضطهاد الجنسي مثلاً؟ والطبقة ليست بالضرورة هامة، بمعنى أنها الدافع الأقوى لكل نشاط سياسي. لنتذكّر فقط دور الانتماء العرقي الذي لم يهتم به ماركس إلا قليلاً. ولذلك يقول أنتوني جيدينز بأن النزاعات بين الدول إضافة إلى الاختلافات العرقية والجنسية قد (لعبت دوراً أساسياً جداً في استغلال الطبقات). ولكنها لعبت دوراً أساسياً، من أجل ماذا؟ من أجل الأخلاق والسياسة، أم من أجل تحقيق الاشتراكية؟ أحيانا نسمّي شيئاً ما أساسياً إذا كان يشكل الأساس لشيء آخر. إلا أننا لا نرى بأن صراع الطبقات يمكن أن يشكل الأساس اللازم للإيمان بالدين أو للاكتشافات العلمية أو لاضطهاد المرأة مهما كان متشابكاً مع هذه القضايا بعدة أوجه. ومن غير المحتمل أن تنهار البوذية أو الفيزياء الفلكية أو انتخابات ملكة جمال العالم، فيما لو أزلنا هذا الأساس. فهي مسائل مستقلة بعضها عن البعض الآخر.

 

تأليف تيري إيفلتون

العدد 1140 - 22/01/2025