حقائق تقتضي المواجهة! (1 من 2)

دائماً هناك رهانات تسعى على أساسها، القوى الفاعلة لتمكين وصولها إلى حيث تريد، وهي ليست رهانات فكر فقط، بل رهانات حضور فاعل وقدرة على التحكم بالواقع. هذه القوى لها رهاناتها المرفقة برؤاها الفكرية، ما يعني أن يكون الفكر نتاجاً لواقع هذه القوى وحراكها من جهة، وموجهاً لضمان سير الحراك بما يحقق لها ما تراهن عليه من جهة ثانية.

يستدعي هذا الحديث النشاط القويّ في منطقتنا العربية، وفي العالم. مع تأكيد محورية هذه المنطقة في توجهات الحراك وتجديد الرهانات، حسب ما يشهده التاريخ بأنها ظلت جاذبة للأطماع التي أبدتها كل قوة ذات توجه (إمبريالي) عبر التاريخ، أي كل قوة وجدت لديها فائض جهد تستخدمه في السيطرة خارج حدودها، وليس غريباً أن تكون منطقة شرق المتوسط (سورية) محط أنظار كل هذه القوى قديماً وحديثاً. هكذا علمنا التاريخ والواقع.

إذاً، لا بأس أن نستدل، من خلال استشراف الواقع وحركته باتجاه المستقبل، على التوجهات التي يمكن أن يؤول إليها، ونحن نرى كل هذا النشاط بوجوهه المرعبة، وقراءة هذا الواقع تفترض النطق بأشياء كثيرة، قد تغيب عن بعض المنخرطين البسطاء في الحراكات ممن يأملون أن تكون خشبة خلاصهم، لكنها لا تغيب عمن هم على درجة أعلى من الوعي، الذين يحسنون قراءة مفاتيح التحكم حتى بالأحلام ومصادرتها. فأحلام الناس لم يعد تحققها رهن حراكهم، كما تعلمنا في الأدبيات الثورية، لكن هناك عناصر جديدة لها قوة كبيرة في لعب الأدوار الظاهرة والخفية. وإذا كنا قد غفلنا عن أدوار القوى الإمبريالية (مع أن هذه الكلمة الهامة تكاد تغيب عن الاستعمال)، فإن هناك عوامل أخرى لها القدرة على التحكم، مثل الإعلام ووسائط الاتصال، وأساليب استخدامها وإغراءاتها في جذب الناس إلى حقول قد يريدونها وقد لا يريدونها.

ومن الحقائق التي توجه حراك منطقتنا وغيرها، مما أصبح مقروءاً بقوة:

أولاً – حرص قوى الغرب التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية، منذ انهيار المنظومة الاشتراكية، على تأكيد تفردها بزعامة العالم وتأكيد أحادية القطبية. وهذا له تجلياته، ومنها القدرة على التحكم بالمنظمات الدولية كهيئة الأمم المتحدة، واتخاذ القرارات المناسبة لمصالحها. وقد أصبحت ذراعها الطويلة تطول كل من ترى وجوب خضوعه لها، وكل شيء بتوقيته وأوانه، كما حصل في العراق منذ 1990 وصول إلى احتلاله وتفتيته (2003)، ومثلما  حصل في أفغانستان وليبيا، وكاد يقع في سورية.

المظهر الثاني لإبراز القوة الغربية، تجلى في سعي اليلايات المتحدة إلى ربط القوى الفاعلة في العالم بتجمعات تحاول الهيمنة عليها، مثل مجموعة السبع أو الثماني ومجموعة العشرين، ولكل منهما دور تحدده تراتبية القوة التي يتمتع بها أعضاء هاتين المجموعتين، مع بروز الدور الأمريكي الفاعل فيهما، من خلال اختيار الأعضاء ومدى تمتعهم بالفوائض المالية، كما يقرأ الأمر في ضم السعودية إلى مجموعة العشرين دون أن يكون بينها وبين غيرها جامع، لا في الديمقراطية مثلاً ولا في التصنيع أو المكانة المعنوية، إنما للإفادة من قدراتها المالية. كما يظهر من خلال تحكّم الولايات المتحدة باحتفاظ الأعضاء بعضويتهم في هذه المجموعة أو إبعادهم منها، مثلما حصل مع روسيا التي أبعدت من مجموعة الثماني، على خلفية موقفها من أحداث أوكرانيا، وفي الأمر ما فيه.

يلاحظ الاستقطاب العالمي الواسع النطاق، والفرز أو التصنيف للقوى والشعوب، فمن اختارتهم الولايات المتحدة هم من يمكنها الاعتماد على أدوارهم في المجموعتين، كما تأمل، ومحاولة إبقاء بعضهم تحت السيطرة، وهناك من لا تستطيع إغفال دورهم. وهذا الفرز لدول العالم يؤشر إلى تراتبيات تصنّف الشعوب على أساسها، دول متسيدة قائدة، ودول تابعة أو أقل دوراً. والمجموعتان يعوّل عليهما في قيادة العالم اقتصادياً على الأقل، مع وجود القريب والأقل قرباً من الموقف الأمريكي في المجموعتين، ومع أن أمريكا تأمل أن يساعدها بناء المجموعتين على اتخاذ القرارات الداعمة لتحكّمها بالعالم، دون أن نغفل عن وجود المناهضين لهيمنتها، ممن تسعى لمعاقبتهم أو إبعادهم، ويلاحظ اعتمادها أسلوب العقوبات والحصار بحق من يخالف إرادتها.

المظهر الثالث لهذا الجهد الأمريكي لإبقاء تحكمها بالعالم، هو النشاط العسكري الذي تقوم به أمريكا في ظل قرارات الأمم المتحدة، أو حلف الناتو، أو من دونهما، وهي تعلم أن دولاً مثل بريطانيا وفرنسا وغيرهما ستلحق بها، وليس هناك من داع للاسترسال في سرد الشواهد الواضحة، من بوغسلافيا إلى أفغانستان والعراق وليبيا وغيرها. وكل ذلك مقروء يؤكد المؤكد من قوة بطش الولايات المتحدة وقذارتها واستعدادها للذهاب إلى الأقصى لتمكين زعامتها، حتى أنها لم تتروّ في سبيل ذلك في قصف اليابان بالقنابل الذرية. ويشير الخوف منها إلى دوام الخضوع لها، مما له مبرراته أو ليس له، إذ إن هناك من تمرد عليها ونجح في تمرده، ما يؤكد إمكان ذلك، ويزيد في احتمال نجاحه الاتحاد ضدها.

ثانياً- الأمر الثاني الذي يؤثر في توجيه الحراك العالمي، وخصوصاً في منطقتنا، تؤكده طموحات قوى كانت إلى فترة قريبة في حالة ضعف. لكنها كبرت وقويت، ومن يكبر يحاول إثبات حجمه الجديد فيتمرد على من يريد إبقاءه صغيراً. والصغير الذي كبر، أو الضعيف الذي قوي، لا يتردد في التعبير عن قوته وإبراز مظاهرها التي لا تخفى، فلم تعد دول مثل الصين والهند والبرازيل وغيرها، تلك الدول المتخلفة الضعيفة، وإذا كانت روسيا التي يعرف العالم قوتها، قد مرت بفترة ضعف، فهي تريد القول إنها لن تبقى ضعيفة، وها هي ذي تبرز عناصر قوتها وإمكانية أن تكون قائدة قطب مواجه لأمريكا.

هذه قوى يظهر لبعضها طموح (امبريالي) اعتماداً على عناصر الجيوبوليتيك التي تحوزها، والاستثمار وبناء العلاقات المستقلة خارج رغبة أمريكا، ما يعني أن الحراك الذي أرادت ضبطه، لم يؤكد هيمنتها، وكأن هذه القوى تقول لها: لن نتهاون في البحث عن أدوار ننتزعها على الساحة العالمية، والتفرد لن يدوم، بل ربما وصل إلى نهايته، وعليها القبول بذلك مرغمة. وهذا الحراك نشاط فردي في بعض جوانبه، وجماعي (بريكس مثلاً) في جوانب أخرى، ويلاقي رغبة وتشجيعاً من شعوب العالم وقواه المستقلة.

الباحثون عن دور يتركون بصمة قوية على الواقع، من اختارتهم أمريكا ومن لم تخترهم، من الآفلين أو الناهضين، بل من الشعوب التي أحسنت توظيف إمكاناتها في بناء قدراتها التي تؤهلها لإثبات وجودها ودورها. والأمر الذي يجب أن نتحسسه، أنه ليس هناك في هذا الحراك دولة عربية واحدة، حتى السعودية عضوة مجموعة العشرين، فلا دليل على قوتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بمقدار ما هو امتلاك أموال ريعية يمكن لأمريكا أن توظفها في عملياتها القذرة، بسبب تبعية السعودية لها. وهذا دليل انتفاء صلاحيتها لممارسة زعامة ودور.

ما لابد من ملاحظته، أن الحراك الاستقطابي، لم يلغ فاعلية دول كانت فاعلة وبنت قواعد متينة أبقتها فاعلة وصاحبة دور، إلى جانب قوى تبرهن عن توجه قوي ودلائل على السير بخطا حثيثة للخروج من واقع التخلف ولتفرض مكانتها واحترامها، وكل ذلك سيكون على حساب الغالبية من شعوب العالم الفقيرة. وإذا كانت شعوب ذات أعداد مليارية مثل الصين والهند قد انضمت إلى حركة التقدم والنهوض، حتى لو بقي الكثير من أبنائها في حالة فقر، كما جعلت أعداد السكان الناهضين يزداد، فإن العدد الكبير من سكان العالم سيبقى في حالة فقر وسيزداد، كما سيزداد استغلاله، لعدم القدرة على استثمار الخيرات الممكنة والطموح لأدوار فاعلة. ما يعني ثانياً أن تقدم شعوب قد يكون على حساب شعوب أخرى تتخلف.

ثالثاً- الحقيقة الثالثة الفاعلة، هي صعود تأثير القوى العقدية الدينية الإيمانية، في توجيه حراك الشعوب، وزيادة الضغوط لتحقيق مصالح وإنجازات. وتتميز القوى الإسلامية في هذا المجال، مع عدم إغفال وجود الصهيونية المسيحية في الغرب، والصهيونية اليهودية في الغرب واسرائيل.

هناك اتجاه خبر قوة المشاعر الدينية الإيمانية في توجيه الناس، ويلاحظ هذا في استغلال المؤمنين المسلمين، كما حصل في تجييشهم لمواجهة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، حين أوهمت الولايات المتحدة المؤمنين أنها (راعية الإيمان؟!) وأنها تساعدهم لمواجهة (الشيوعية الكافرة؟!) التي تدنس بلاد الإسلام، وتعمل معهم لطرد الكفر الشيوعي منها، وقد خبرت أمريكا قوة هذه المشاعر الإيمانية المدعومة بالبترودولار، وقررت ألا تتخلى عن إمكانية توجيهها وإشغالها، حتى بعد أن تحولت إلى ما وصف بالإرهاب بعد ذلك، وادعت أمريكا أنها ضحيته، مع ملاحظة أنها تسعى لإدارته والسعي للتحكم به أكثر من سعيها للقضاء عليه، ثم إنه أكثر ضامن لبقاء العالم الإسلامي أو أجزاء منه في حالة تخلف تسهل استغلاله. ما ينسجم مع المقولة العوجاء التي وضعها برنارد لويس وطورها تلميذه صمويل هنتنجتون ((صدام الحضارات)) التي آلت إلى الفوضى الخلاقة، ومن يثير الفوضى ويأمل أن تكون خلاقة هو من يستطيع إدارتها والتحكم بها، أو استثمار غفلة الناس (المؤمنين) وحماسهم وغبائهم.

العدد 1140 - 22/01/2025