اليعاقبة والثورة الفرنسية

تدخلت الجماهير الباريسية وشنت انتفاضة جديدة، جاؤوا على إثرها باليعاقبة، بقيادة روبسبير، إلى السلطة. كان اليعاقبة يمثلون الجناح الراديكالي الثوري من البرجوازية، وجاء تشكيلهم الأساسي من الصفوف الدنيا من البرجوازية والطبقات المهنية. كانوا على قدرٍ عالٍ من التنظيم، وكان لهم وجود في جميع أنحاء فرنسا، واستطاعوا أن يحظوا بتأييد جماهيري كبير. كما أنهم أدركوا ضرورة تفكيك الإقطاع بالكامل وتصفية قوى الثورة المضادة.

الجزء الأخير يعني أن هناك تنازلات قدمت للجماهير، وأن الرأسماليين قد تم تأديبهم. فالتدابير المتخذة اشتملت على ضوابط للأسعار والأجور، ووضع حد لسقف العرض والطلب والأرباح. وكانت عقوبة تخزين الحبوب والمضاربة بها هي الإعدام. كما وضعت الدولة يدها على قطاعات صناعة الأسلحة المتنامية آنذاك. تغاضت البرجوازية عن ديكتاتورية اليعاقبة لأن البديل كان استعادة النظام القديم. وهكذا تمكّن التحالف بين اليعاقبة والجماهير من أن يحول التيار لصالحهم، انتصروا في الحرب، وحافظوا على الثورة.

ولكن سرعان ما واجه اليعاقبة المشكلات، فبعد الانتصار في الحرب وتفكيك الإقطاع، لم تعد هناك مصالح مشتركة تربط بين البرجوازية والجماهير. فأثارت القيود الصارمة المفروضة غضب البرجوازيين، بينما وجدت الجماهير أنه قد حلّ محلّ سادتهم الإقطاعيين القدامى، مجموعة جديدة من المستغلين. وبانحسار خطر الثورة المضادة، بدأت خسارة الجماهير لمكاسبها. على سبيل المثال، خففت الرقابة على الأسعار، في حين استمر تنفيذ ضوابط الأجور بكل صرامة.

هكذا أعرب الزعيم الشعبي جاك رو (*) عن خيبة أمله ومحدودية المجتمع البرجوازي: (الحرية مجرد وهم، عندما تسمح طبقة ما لنفسها بتجويع طبقة أخرى مع ضمان الحصانة والإفلات من العقاب. والمساواة مجرد وهم عندما يتحكم الأغنياء من خلال احتكاراتهم الاقتصادية في حياة أو موت شركائهم في الوطن).

حفزت الحاجة إلى السلاح من أجل خوض الحرب نمو الصناعة، وبالتالي تشكلت نواة الطبقة العاملة الجديدة. بدأ هؤلاء العمال في تنظيم أنفسهم، وتكوين النقابات، للنضال من أجل رفع الأجور. دفع ذلك بهم إلى صراع مباشر مع الرأسماليين والدولة، التي حظرت الإضرابات والنقابات، وحتى الاجتماعات العمالية. كذلك شنت حكومة اليعاقبة حملة ضد الأندية السياسية والجمعيات الشعبية. وهوجمت النساء بسبب (تخليهن عن واجباتهن المنزلية، ورعاية أطفالهن، من أجل الخروج إلى الميادين العامة لإلقاء الخطب).

لقد نجح اليعاقبة في البداية وبشكل أساسي لأنهم حققوا توازناً بين البرجوازية والجماهير. ولكن، بقضائهم على كل المعارضة الآتية من أسفل، قلص اليعاقبة قاعدتهم الداعمة، وهكذا تمكنت البرجوازية من التخلص منهم. فأطيح بروبسبير وأعدم في تموز (يوليو) من عام 1794. كانت البرجوازية قادرة في تلك اللحظة على توطيد سلطتها، واستكانت الرأسمالية الجامحة إلى جانبها. ولكن، كما قال ماركس، فإن (الرأسمالية تخلق حفاري قبورها) في صورة الطبقة العاملة. واستمر الوعي الطبقي للجماهير الفرنسية في التنامي على نحو مطرد، فتمكنوا من الإطاحة بالطغاة في عام 1830 وعام 1848. وفي عام 1871 أقاموا أول حكومة عمالية في العالم في (كوميونة باريس).

لم تتمكن الثورة الفرنسية من تحرير الإنسانية، ولم يكن لها أن تفعل. لكنها مهدت الأرض نحو تطور الرأسمالية، وأرست الأساس المادي لعالم يمكن أن ينتج ما يكفي من الثروة لتلبية الاحتياجات البشرية. في الوقت نفسه قد أدخلت الطبقة العاملة الحديثة إلى حيز الوجود – القوة الوحيدة القادرة على خلق مجتمع حر وديمقراطي بالفعل، حيث يتم استخدام الثروة لتلبية احتياجات الجميع بدلاً من أن تتكدس وتقبع في جيوب أقلية.

 

(*) جاك رو (21 آب (أغسطس) 1752-10شباط (فبراير) 1794) قس كاثوليكي لعب دوراً سياسياً بارزاً في باريس عام ،1789 أثناء الثورة الفرنسية (المترجمة).

(*) المقال بقلم: تيس لي آك، ومنشور باللغة الإنجليزية بموقع منظمة البديل الاشتراكي الأسترالية.

 

ضي رحمي – مركز أبحاث الماركسية واليسار

العدد 1140 - 22/01/2025