في غمار الحرب… كيف يسافر السوريون؟!
مريضاً…أو على سفر…
على سفر وأنتظركِ في المحطة الأولى والأخيرة أيتها البلاد الجريحة..
حيث لم تعد ثمة محطات على الطريق..
أحرقت..
استحلّت..
دمرت..
حتى المحطة الأولى صارت ساحة حرب…أي شارع خلفي صار محطة سفر…
الحديث عن سورية.. عن دمشق التي أسافر منها وإليها كل فترة…
هل سيكون أمام البلاد عدة من أيام أخر؟ أم أن الرقاب ستبقى مشرعة للسكاكين ولا عتق لها إلا بعد أن تصبح البلاد قاعاً صفصفاً للمتحاربين وحملة السلاح وأدوات القتل الأخرى…؟؟
كراج البولمان الذي كان لم يعد موجوداً، كان في منطقة القابون ضمن المنطقة الصناعية القديمة، التي لم تكن سوى محلات إصلاح للسيارات شيدت على عجل، بعضها من الصفيح وأخرى من بلوك وأسمنت.. وبعض المعامل التي احتلت المنطقة القريبة من كراجات العباسيين (الهوب هوب)، وبينها تنتشر مؤسسات حكومية ومواقع عسكرية ككل مناطق سورية.
كراج البولمان هذا وصلت المعارك إليه بعد فترة من تحول المظاهرات والاعتصامات السلمية في حزام الفقر المحيط بدمشق إلى معارك مسلحة، كنتيجة طبيعية للعنف الأعمى في التعامل مع الحراك الشعبي.
كان الرصاص يلعلع حوله، والمسافرون بقوا بعناد السوري للحياة يغادرون منه وينتظرون بعضهم فيه، لكنه دخل لاحقاً في خارطة الأماكن الممنوعة، صار ساحة للموت، بعد أن شهد مراراً قبلات لقاء ووداع، ونظرات صبية من خلف بلور الحافلة، تعد الرجل الواجم هناك بعودة سريعة…
البولمانات القليلة التي بقيت على خطوط المناطق الآمنة، الآمنة نسبياً ـ وربما مؤقتاً إن استمرت هذه الحرب المجنونة ـ يصطف بعضها على أوتوستراد العدوي، بعد عقدة القابون، وقد وضع موظفو الشركات طاولاتهم على الرصيف، وجلسوا على كراسي بلاستيك لإدارة عمليات الحجز واستقبال الطرود وإرسالها.
قبلات على الرصيف
الرصيف هو المكان الوحيد المتاح للمسافرين المنتظرين حافلتهم الموعودة، للأمتعة والطرود، تنكات زيت الزيتون والجبنة، البرادات والغسالات والأجهزة الكهربائية الأخرى التي يشك الكثيرون بأمرها، بعد أن أصبحت قصص سرقة أثاث المنازل في المناطق المنكوبة أكثر من أن تحصى…ولا بد من أن ترسل المسروقات إلى البيوت الجديدة للصوص بعد أن تدبر لها أوراق ثبوتية، فاتورة، سجل تجاري.. إلخ.
شركات نقل أخرى اختارت مناطق بعيدة نسبياً لوقوف بولماناتها وتجميع الركاب على الأرصفة طبعاً، أمام المدينة الجامعية في المزة، أوتوستراد الزاهرة الجديدة قرب كراج درعا، ضاحية جرمانا..إلخ.
لا مقاعد للمسافرين والمستقبلين والمودعين ولا مظلات، لا دورات مياه ولا أي خدمات تقدم في الكراج الرصيفي سوى بسطات قليلة تبيع سندويشات مشكوك بنظافتها ودخاناً ولوازم أخرى تتناثر أيضاً على الرصيف، رائحة واخزة وحادة تفوح من زوايا سور أبنية العدوي المطلة على الأوتوستراد بسبب اضطرار الكثيرين إلى قضاء حاجاتهم في الهواء الطلق، الوشيشة أيضاً، من تبقى من الوشيشة بالأحرى، نقلوا نشاطهم إلى ذلك الرصيف، وصاروا يصطادون بعض الركاب وإن بهدوء أكثر بسبب قلة المنافسة أصلاً.
رافقتكم السلامة!
هذه العبارة التي كنت تقرؤها على اللوحات الطرقية على مخارج المدن، وعلى أبواب الكراجات صارت سؤالاً يتكرر على مسامع المسافر، السؤال الأول والأهم الذي يسمعه الركاب ويشغل الناس في الانطلاق وبعد الوصول هو: (كيف الطريق؟؟ في شي؟؟)…
وهو سؤال طبعاً عن الحالة الأمنية للطريق وليس حالة الزفت مثلاً.. وهي حالة لا تسر طبعاً بعد تعرض الطرقات للقذائف وسير المجنزرات وانعدام إمكانية أي صيانة للطريق خاصة في المناطق الخطرة.
تختلف الإجابة حسب الطريق، الأوتوستراد الدولي دمشق – حمص – الساحل بقي آمناً في الغالب، باستثناء بعض مراحل اقتراب المواجهات منه، معارك القصير أواسط ،2013 ثم معارك النبك ودير عطية أواخر العام الفائت ومعارك مدينة عدرا العمالية التي أدت إلى إغلاقه ليوم أو يومين فحسب بداية هذا العام..
تمر من أمام مدينة عدرا العمالية التي دخلها مسلحو المعارضة مؤخراً، عناصر الجيش السوري منتشرون على جانبي الأوتوستراد، لا تفصلهم عن المدينة التي يسيطر عليها مسلحو المعارضة سوى بضعة كيلومترات، تبدو المدينة هادئة لا أثر للحياة فيها، الركاب جميعاً يشخصون بأبصارهم إليها من نوافذ الباص علهم يلتقطون مشهداً ما يضيء هذه الحالة المريبة، أحياناً يتصاعد الدخان من أبنية يبدو أنها تعرضت للقصف، لكن غالباً لا أثر لشيء، صمت مطبق غريب.
طرق التفافية
بعض الباصات لا تدخل دمشق عن طريق الأوتوستراد الذي يمر بجانب دوما وحرستا بسبب حالات القنص والمخاطر الأخرى، فتسلك طريق المتحلق الشمالي الذي يلف حول قاسيون مروراً بمدينة التل إلى دمر، ثم المدينة من جهة الغرب الأكثر أماناً، آخرون تعودوا على المخاطر ويدخلونها من الطريق الأقرب والأخطر…هناك تجد آثار المعارك الطاحنة، شركات السيارات الحديثة التي كانت تملأ جانبي الطريق بأبنيتها الفخمة مدمرة بالكامل تقريباً، الكازيات، محلات إصلاح الآليات الكبيرة.. ثم تصل إلى حرستا والقابون، دمار شامل وبيوت محروقة، سيارات محروقة أو مقلوبة بعد تعرضها للقنص أو القصف متروكة على جانبي الطريق، ومشاهد تجعلك تتحسر على المدينة التي كانت..
الشرق المزدحم
بالسواد والموت
أما الطريق الواصل من دمشق إلى المنطقة الشمالية الشرقية، تدمر، ديرالزور، الرقة، القامشلي ففيه قصص وحكايات لا تنتهي، عن حواجز ملونة، مختلفة الأسماء والأزياء والأعلام…
طبعاً لم يعد مسار الطريق ثابتاً، يتغير حسب الوضع الأمني في كل منطقة، وحسب تعليمات حواجز التنظيمات المتطرفة التي تقوم بخطف الباصات أو بعض الركاب أحياناً، وتفرض تعليمات مشددة مثيرة للضحك كشرّ البلية، فلا يكتفون بفرض الحجاب على جميع النساء، بل تقتضي تعليماتهم بجلوس جميع النساء في المقاعد الخلفية للبولمان حتى لو كان مع المرأة زوجها أو شقيقها أو أحد ذويها!
هنا تجد أفلاماً عجيبة غريبة، حاجز جيش نظامي يليه حاجز للأمن، ثم آخر للجيش الحر، يليه حاجز لجبهة النصرة، ثم داعش، ثم حاجز لقوات الحماية الشعبية الكردية، ثم للجيش أو المخابرات وهكذا…
المسافر الذي يعبر كل هذه الحواجز سالماً غانماً يكون من المحظوظين، إن لم يقم أي منهم بإنزاله والتحقيق معه أو اقتياده إلى جهة مجهولة، طبعاً يتم لاحقاً التفاوض عليه أو على جثته.
لذلك يزداد الضغط على السفر بالطائرة إلى القامشلي، وأصبح الحجز يحتاج إلى انتظار شهر أحياناً إلا إذا وصلت إلى سماسرة يأخذون منك ضعفي التسعيرة المعتمدة ليجدوا لك مقعداً في رحلة قريبة…
على سفر أنت…إذاً الخطر يرافقك كثيراً، لا تهدأ الهواتف النقالة للمسافرين حين تتوفر التغطية في منطقة ما وهم يطمئنون ذويهم وأحباءهم أنهم بخير و(الطريق ما في شي، صرنا بعدرا، صرنا بحسياء، صرنا على تحويلة حمص….الخ)
على سفر أنت…ولا تعرف إن كانت عودتك متاحة أم لا، إذا أغلق الطريق بسبب اندلاع اشتباكات عليه في منطقة ما…
بلاد تبدو كلها على سفر…واحتمالات العودة قليلة، قليلة كما المطر هذا العام..