في غياب المازوت!
كان (الطنبر) يتبختر في شوارع المدينة كأنه يخت ملكي، لا يبالي بزمامير السيارات التي تطالبه بإتاحة مجال لها للمرور، ولا بنظرات الصغار المشدوهة إلى البغل أو الفرس أو الأتان الذي يجر الطنبر وعيناه محاصرتان من الجانبين حتى لا يرى سوى المطلوب منه كمواطن عالمثالثي في نظام مستبد، وكان الناس الذي يرتجفون برداً يلحقون صوت مزمار بائع المازوت حاملين (بيدوناتهم) حين يعز المازوت.
وفي مدينتنا الصغيرة النائمة على مقربة من دجلة في أقصى شمال شرق سورية كان الكثير من المدرسين في مدارسها قادمين من محافظات الداخل والساحل بسبب نقص الكادر التدريسي في المنطقة الشرقية وأسباب أخرى لسنا في وارد تحليلها! وصدف أن مدرس لغة عربية قادم من جبل العرب عانى طويلاً من غياب المازوت فكتب معلقة صميدعية عن المازوت ونشرها في مجلة الحائط المدرسية على أمل أن يأتي طنبرجي (مسقف) ويقرأها، ما زلت أتذكر مطلعها:
يا بائع المازوت عرّج نحونا
فإن أردتَ ربحاً فالمرابح عندنا
الآن ينتظر المواطن أن يرن موبايله ويظهر عليه رقم غريب لربما كان لأحد مالكي الصهاريج الصغيرة التي تتعاقد معها سادكوب لإيصال مخصصات المواطن من المازوت، التي تتراوح بين مئة ومئتي لتر حسب المتوفر في كل محافظة أو منطقة، وهي سيارات بيك أب قديمة دخلت البلد منذ عقود ركبت عليها خزانات مازوت وزمامير تشبه زمور الطنبر حفاظا على التراث، يسأله السائق عن العنوان بالتفصيل ويعرض عليه أن يبيع مخصصاته لصاحب الصهريج لمعرفته أن كثيراً ممن سجلوا على المازوت لا يملكون في جيبهم مبلغ 17000 ليرة (شندي) لدفعها مقابل مازوته المخلوط، طبعا إن وافق المواطن البردان فهو سيشتري منه بأقل من السعر الرسمي بكثير ليبيعه بأكثر منه بكثير أيضاً..
ما أرويه عن انتظار المواطن والهاتف المجهول هو محض خيال، ربما لا يحدث وربما لا يحدث.
ويروي الرواة أن هناك مناطق من سورية المازوت فيها أرخص من الفجل، ولا داعي لأي (واسطة) للحصول عليه، وهو من نفط البلد الذي يكرر بمصافي صغيرة بدائية غالباً ويباع محلياً، فهل تصدق مثلاً إن ابن القامشلي يشتري ليتر المازوت بـ30 ليرة فقط؟! علماً أن المدينة لا ترى الكهرباء إلا لماماً والتغطية الهاتفية شبه غائبة تماماً منذ اكثر من عامين؟! فيما المازوت من النوعيات الرديئة متوفر ورخيص.
هل يعلم أحدكم سعر باقة الفجل في بورصة دمشق للأوراق المالية؟!
أسئلة أخرى للذين لم يخسروا بيوتهم وأثاثهم وكل جنى العمر، هل تعلم سعر المدفأة (أم طاسة) في السوق المحلية؟ يقول مغرضون إن المدفاة العادية، يعني بماركات (حيا الله) بحدود 15000 ليرة فقط.. والمدفأة المستعملة من 7000 إلى 10000 آلاف ليرة. ويتساءل مراقبون: كيف سيشتري النازح المنتوف مدفأة لعائلته التي خرجت من بيتها (إيد من ورا وإيد من قدام) قبل أن يفكر في شراء البواري والمازوت والذي منو..
السوريون يبدؤون كعادتهم بنسج النكات عن المازوت وهمومه، منها المشروعة التي لا تكلف قائلها وناقلها سوى عناء الحفظ والنقل والرواية، ومنها غير المشروعة التي لا داعي لذكرها وذكر ما يعترض قائلها وراويها وسامعها وبائعها ولامسها وعاصرها ومعتصرها من عظائم الأمور والعياذ بالله..
فقد مر أحدهم بجانب مواطن تفوح منه رائحة المازوت فهمهم في نفسه قائلا: (باين عليه ابن عز هالضرسان).. وقامت مواقع إلكترونية وصفحات فيسبوك بتنظيم مسابقات تحت عنوان: من سيربح المازوت؟ وتحول المثل المعروف عن الرز والبرغل إلى: العز للمازوت والحطب شايف حالو..
نعم الحطب شايف حالو وكاد أن يصبح أغلى من المازوت مع صعوبة نقله وتخزينه، ورائحة دخانه التي تعمي، لكن لسان حال السوري الباقي مكرهاً لا بطل يقول إن البدائل عن المازوت لا تنحصر في الحطب، فمم تشكو البطانيات واللحف؟ وقد تحولت عشرات ألوف الأشجار المثمرة إلى حطب بعد أن قطعوا ثمارها وطن الحطب بـ 37 ألف ليرة.
هكذا بات مشهد العائلة السورية جالسة في العتمة، وكل واحد منها يلف جسده ببطانية وهم يرتشفون الشاي أو المتة، مألوفاً بل عادياً، ويمكن تقديم ما يتوفر من بطانيات للضيوف أيضاً.. أما كيف سخّن هؤلاء العنيدين إبريق الشاي أو المتة؟ فلا تسأل.
إنها المعجزة السورية..