لماذا كان كارل ماركس محقاً؟ (16)

كان هدف التصاميم الطوباوية عند ماركس على الأغلب تحويل الأنظار عن الواجبات السياسية الراهنة.

وكان يفضل استخدام الطاقة المبذولة من أجلها في الكفاح السياسي. وكان، كمادّيّ، لا يثق بجميع الأفكار المنفصلة عن التاريخ الواقعي، يعتقد بوجود أسباب وجيهة لهذا الانفصال عادة. فكلّ من لديه قليل من الوقت، يستطيع تطوير نماذج عن المستقبل ووضع ما لا نهاية من الخطوط العريضة لقصّةٍ جميلة لا يأتي على كتابتها لأنه مشغول بوضع ما لا نهاية له من النماذج الأخرى لها. لم يهتم ماركس بأن يحلم بمستقبل مثالي، وإنما كان مهتماً بتحليل تناقضات الوضع الراهن التي تعيق بداية مستقبل أفضل. وبعد تحقيق هذا الهدف، يصبح هو وأمثالُه لا لزوم لهم.

في (الحرب الأهلية في فرنسا) يكتب ماركس ما يلي عن الطبقة العاملة الثورية: (ليس لديها مُثُل عليا لتحقّقها، ولكن عليها أن تحرّر مقوّمات المجتمع الجديد…).

 ليس الأمل في مستقبل أفضل فقط في أن نتلهّف إلى القول (أليس شيئاً جميلاً أن يكون كذا وكذا…) . إذا كان على المستقبل الآخر حقيقة أن يكون أكثر من أوهام باطلة، فيجب ألا يكون مرغوباً فيه فحسب، بل يجب أن يكون قابلاً للتحقيق أيضاً. وحتى يكون قابلاً للتحقيق، يجب أن يكون متجذّراً في حقيقة الوضع الراهن. ولا يمكن نقله من عالم سياسي مّا إلى هذا الوضع الراهن. ويجب أن تتوافر إمكانية رصد هذا الواقع ومسحه جيداً حتى يكون المستقبل متداخلاً معه وملازماً له. وإلا فإننا نوقظ في الناس رغباتٍ لا جدوى منها، وهذا ما يعتبر وفق فرويد سبب الأمراض النفسية.

هناك إذاً في الوضع الراهن قوى تتخطّاه. فالحركة النسويّة مثلاً حركة سياسية تنشط في الزمن الحاضر،

لكن نشاطها يهدف إلى تحقيق مستقبل يتخطّى الوضع الراهن. والطبقة العاملة وفق ماركس تشكل عامل

ارتباط بين الحاضر والمستقبل، فهي في ذات الوقت الحقيقةُ الواقعة الآن والعاملُ الذي يمكنه تغييرها.

والسياسة التحرّرية هي رأس الإسفين الذي يدقّ المستقبل في قلب الحاضر. وهما يشكلان بذلك جسراً بين الحاضر والمستقبل، وهي النقطة التي فيها يلتقى الحاضر والمستقبل، ويتغذّيان من موارد الماضي، أي من التقاليد السياسية الثمينة التي لا بدّ من المحافظة عليها.

بعض المحافظين هم أيضاً طوباويّون. لكن طوباويّتهم تقع في الماضي وليس في المستقبل. فالتاريخ برأيهم هو هبوط حزين وطويل الأمد من عصرٍ ذهبي يمكن توطينُه وفق الحاجة في عهد آدم أو فرجيل أو دانتي أو شيكسبير أو صاموئيل جونسون أو جفرسون أو دزرائيلي أو حتى مارغريت ثاتشر أو غيرهم. وهكذا يصبح الماضي عندهم كالتميمة، تماماً كما هو المستقبل عند بعض المفكّرين الطوباويين. وفي الواقع، لا يوجد ماضٍ، كما لا يوجد مستقبل، رغم أننا نشعر بوجود الماضي. ومع ذلك، فإننا نجد محافظين يرفضون أسطورة الخطيئة الأصلية لأنهم يعتقدون أن كلَّ عصر من العصور كان يتّصف بالدرجة ذاتها من السوء. والخبر الجيّد عندهم هو أن الوضع لم يزدد سوءاً، والخبر السيئ هو أن الأمر كذلك، لأنه لا يمكنه أن يزداد سوءاً. تحدِّد التاريخَ طبيعةُ الإنسان التي توجد، أولاً، في وضع مرعبٍ من القصور والتقصير والتي لا تريد، ثانياً، ومهما حسنت النوايا، تغيير ذاتها. لا يوجد جنون أو عذاب أعظم من أن تعد الناس بمثُلٍ عليا لا تستطيع الناسُ تحقيقها، لأنهم هم هكذا، كما هم. ووفق هذا الرأي لا يحقق المتطرّفون في النهاية سوى أن يكره الناس ذواتهم. وفي مسعاهم إلى إلزامهم بأهداف سامية، يُلقي المتطرّفون بهم في اليأس والشعور بالذنب.

أن نبدأ من حيث نحن، قد لا تكون الوصفة الجيّدة للتغيير السياسي. وقد يبدو الوضع الراهن أحياناً عقبة

في وجه إعادة تشكيل المجتمع. وهذا ما أجاب به المغفّل الإيرلندي عندما سُئل عن الطريق إلى محطة

القطارات، فقال: (لو كنت مكانكم لما انطلقت من هنا). وهذا التعليق ليس غير منطقيّ تماماً، كما قد نظنّ وهذا ما يسري على الإيرلنديين أيضاً. وهو يعني (أنكم ستصلون إلى هدفكم بشكل أسرع ومباشر فيما لو لم تنطلقوا من هذا المكان البعيد والمعزول). يستطيع اشتراكيو هذه الأيام أن يشعروا بهذا الشعور. لنتصوّر ذلك الإيرلندي الذي يُضرب به المثل ولنسمع ما يقوله عن روسيا بعد الثورة البلشفية، ذلك البلد المحاصر من جميع الجهات والمعزول والمفقر تماماً، والذي يريد بدء مهمة بناء مجتمع اشتراكي. إنه يقول: (لوكنت مكانكم، لما بدأت من هنا).

لكن من الطبيعي ألا توجد نقطة أخرى يمكن الانطلاق منها. يجب أن يكون المستقبلُ الآخر مستقبل هذا الوضع الخاص الراهن. والجزء الأكبر من هذا الحاضر يشمل الماضي أيضاً. وليس لدينا لتغيير المستقبل سوى العدّة القليلة والبسيطة التي ورثناها عن الماضي، وهي عدّة أكل الدهر عليها وشرب، ورسم عليها آثار الألم والاستغلال حتى وصلت إلى أيدينا. في (نقد برنامج غوتا) كتب ماركس أن المجتمع الجديد (لا يزال يحتفظ بشامة المجتمع القديم الذي أتى منه). ولهذا لا توجد نقطة بداية (نظيفة). وانطلاقاً من مثل هذا الافتراض كان وهم الشيوعية اليسارية (التي أطلق عليها لينين اسم (فوضى الطفولة) التي رفضت في حماسها الثوري أيَّ تعامل مع عدّة العمل السيّئة الحاضرة: إصلاحات اجتماعية وتشكيل نقابات وأحزاب سياسية وديمقراطية برلمانيّة إلخ. وفي النهاية نجحت هذه الحركة في أن تقف بلا شائبة، ولكن أيضاً بلا حول ولا قوّة.

وكما لا يأتي الشباب ببساطة بعد الطفولة، لا يضاف المستقبل ببساطة إلى الحاضر. بل يجب اكتشاف المستقبل في الحاضر. وهذا لا يعني أن هذا المستقبل الممكن سيأتي حتماً، كما لا يدخل كل طفل على أية حال في عمر الشباب. فلربما يموت قبل ذلك بسبب سرطان الدم (لوكيميا). ولهذا يجب أن يكون واضحاً بالنسبة لنا أن ليس كل مستقبل، لا على التعيين، ممكناً، انطلاقاً من حاضر معيَّن. وانفتاح المستقبل ليس كلياً. لا يستطيع المستقبل أخذ كل شكل. أين سأكون بعد عشر دقائق، يتعلّق بين أمور أخرى بالمكان الذي أوجد فيه الآن. أن نرى المستقبل كإمكانيّة في الحاضر، شيء مختلف عن أن نرى في البيضةِ الصوصَ الممكن. فإذا لم تُخفق البيضةُ ولم تُطبخ، فإنها تتحول وفق قانون طبيعي إلى صوص. لكن الطبيعة لا تضمن أن تأتي الاشتراكية بعد الرأسمالية مباشرة. ففي الحاضر تكمن عدة مسارات مستقبلية، بعضها أقل جاذبيّة من بعضها الآخر.

تأليف: تيري إيغلتون

العدد 1140 - 22/01/2025