إهمال الزراعة سياسة حكومية.. بلد زراعي بامتياز معدل نمو إنتاجه الزراعي سالب!
الزراعة، جناح اقتصادنا الأساسي مهمل، رأس قاطرته التنموية بلا رعاية. هذا القطاع الذي كان يغذي 23 مليون مواطن بسلة استهلاكية أساسية، ويمّد الصناعة بعدد كبير من المواد الأولية، وصاحب النسبة الأعلى في الناتج المحلي، والتي كانت تصل إلى الربع، تقهقر لسببين أساسيين، السياسات الاقتصادية الحكومية المتبعة، وموجات الجفاف المتعاقبة.
لم تقدم حكومة سورية على الإطلاق، دعماً كافياً للزراعة، ظل هذا القطاع الحيوي والمهم، شأناً ثانوياً، وعرضة للإهمال، بقصد تارة ودون قصد تارة أخرى. فكل القرارات والتوجهات العامة، ويضاف إليها الإرادة السياسية، كانت تقر بما لايدع مجالاً للشك دور الزراعة المهم في الاقتصاد الوطني، إلا أن واقع الزراعة لم يكن يعبر عن هذا الدعم. حظي هذا القطاع بأهميته ذاتياً، من خلال دوره الكبير الذي لعبه في ثمانينيات القرن الماضي عند طرح سياستي الاكتفاء الذاتي والاعتماد على الذات، فكانت الزراعة الميدان الأساسي لتحقيق هذين التوجهين البارزين، اللذين رسما مستقبل سورية. فتجاوزت أسعار عدد من المحاصيل الاستراتيجية الأسعار العالمية، القمح أنموذجاً، ما أدى إلى خلق حافز للفلاحين لزراعة أراضيهم بهذه المحاصيل، والتأسيس لعدد من عوامل الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لهذه الشريحة. كما ساهم توفر مستلزمات الإنتاج من بذار وأسمدة ومحروقات وآلات زراعية ويد عاملة رخيصة في المحافظة بزيادة الرقعة الزراعية. نقاط القوة هذه التي ميزت الزراعة السورية، لم تستطع الصمود أمام سياسات وتوجهات اقتصادية حكومية ألحقت الضرر بالفلاحين، إذ أصبحت زيادة الإنتاج عبئاً، وقلة المردودية وانخفاض العائد الاقتصادي أمراً بسيطاً، نتيجة تخلي الأسر الريفية عن الزراعة، وجعلها عملاً ثانوياً مسانداً لها. وليس أدل على هذا المأزق سوى انخفاض عدد العاملين بالزراعة، ويوضح مسح قوة العمل 2012 الذي نفذه المكتب المركزي للإحصاء، أن 13.2% كانوا يعملون بالزراعة عام 2011 مقابل 30.4% عام 2001 من حجم قوة العمل، وفقا للتوزع النسبي للمشتغلين حسب النشاط الاقتصادي. هل نتذكر أيام باعت الحكومة السورية أواسط العقد الماضي قمحنا بحجة عدم وجود أماكن للتخزين، واستهداف المخزون الموجود بالعراء من الفئران، فباعت الحكومة القمح الفائض، لتجد نفسها عقب أقل من عامين أمام معضلة شديدة الحساسية وهي صعوبة تأمين القمح نتيجة موجة الجفاف التي ضربت البلاد بين 2008 ـ 2010. كما أن الانفتاح الذي تغنت به الحكومات السابقة، لم يكن للقطاع الزراعي منه حصة، إذ ظلت الزراعة بعيدة عن اهتمامات المستثمرين والحكومة، ولم تصدر التشريعات التي تحفز المستثمرين على ولوج هذا القطاع المهم، وظلت التشريعات الناظمة لهذا القطاع محكومة بعلاقة دولة مع فلاح، ولم ترتق إلى علاقة تشاركية. كما أن الشركات الزراعية المؤسسة بالتعاون بين القطاعين العام والخاص خاضت تجربة مريرة وقاسية جداً، وأفضل الحلول التي قدمت لانقاذها هو التصفية. أكثر من ذلك، مرت سنوات أهمل الفلاح إنتاجه، وتركه في الحقول، لأن كلفة جنيه، أعلى من سعر المنتج بالسوق، وما كان من الحكومات آنذاك إلا ممارسة فعل الفرجة بالمعنى غير المسرحي أي بلا تفاعل إطلاقاً. وأدت موجات الجفاف المتعاقبة، والخسارات المتتالية للقطاع الزراعي، إلى هجران هذه المهنة، وترك الأراضي بوراً، والأشجار مهملة، والحقول بلا حراثة. وبالمسطرة ذاتها يمكن قياس الشق الحيواني، فالميزات النسبية التي يملكها هذا الشق كأغنام العواس وقطاع الدواجن، ظلت عرضة لتقلبات مزاجيات المسؤولين والمسيطرين على كل قطاع على حدة، لجهة منع التصدير، وعدم إقامة صناعات تحتاج إلى هذه المنتجات.
الشيء المؤسف أن تستورد سورية كدولة زراعية بامتياز، منتجات غذائية زراعية، وتلهث الجهات المختلفة في الأسواق العالمية بحثاً عن البسكويت والمعكرونة والكونسروة والألبان والأجبان..إلخ. والمخجل في الأمر أن نبحث عن كل أنواع المعلبات، واللحوم المثلجة، ولدينا الثروة الأهم، التي تفوق في دورها أي ثروة أخرى، وهي ثروة متجددة. إذ أطلق السوريون على الشق الحيواني بالزراعة الثروة الحيوانية، إلا أن دولة تهمل ثروتها التي تدرّ ذهباً لايمكن أن تحقق شعاراً أطلقته، أو خطة وضعتها.
في موجة الجفاف التي ضربت شمال البلاد، خزان سورية من القمح والقطن، هجرت ألاف العائلات التي تعمل بالزراعة أراضيها وقراها، بلا تعويضات تسند جوعها، أو تعوض خسائرها، وقطنت بذل في ضواحي دمشق وريفها ودرعا والسويداء. ماذا يمكن القول لفلاح أجبرته الظروف على مغادرة أرضه وأن يعيش بفقر وذل ويبحث عن عمل جديد لا يتقنه؟ بل لم تقدم الحكومة آنذاك شيئاً، لمعالجة مأزق قاد إلى مشكلة تنموية، إذ انخفض نمو الناتج في القطاع الزراعي بنسبة (ناقص) 9.6% بسبب انخفاض كميات الإنتاج في عام 2010 عن عام 2009 وفقا للمجموعة الاحصائية.
في هذه الظروف القاهرة تستمر الحكومة في تجاهلها لقطاع الزراعة، وتتعمد عدم رعايته، ربما لممارسة مزيد من الضغوط ليس على الفلاح وحسب، إنما على الاقتصاد الوطني أيضاً. أمامنا خيار وحيد عمره عقود طويلة، وهو المحافظة على الزراعة والصناعة وتطويرهما، ولم تأت حكومة تعنى بالإنتاج، فكل حكوماتنا كانت أبعد ما تكون عن جناحي التنمية: الزراعة والصناعة. ويحدثونك عن الفشل في الخطط التنموية!