العودة إلى ثقافة التنوير وفكره النهضوي

برزت في الآونة الأخيرة ضرورة العودة إلى الفكر التنويري، وخصوصاً بعد التصاعد الذي لا سابق له للفكر الأصولي التكفيري، فقد انتشرت هذه الظاهرة انتشاراً كبيراً في منطقتنا وأنحاء عديدة من العالم، تشمل أكثر الدول تقدماً من الناحية العلمية. ولقد أخذت أوجهاً مختلفة، ولم تعد تتحد في إطار فكري معين، وأدخلت دول العالم وشعوبه في صراعات نتج وينتج عنها أحداث دموية لا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة.

والفكر الأصولي كما هو معروف فكر إلغائي يقصي العقل تماماً، ويحتكر الحقيقة لنفسه، ويرى في كل الأفكار الأخرى التي تختلف معه خطراً كبيراً عليه، لذلك يسعى جاهداً للقضاء عليها. إنه فكر لا يؤمن بمبدأ التعايش بين بني البشر على أسس الاحترام المتبادل والتكافؤ، بل يريد فرض نفسه عليهم حتى لو كان ذلك عن طريق القوة والعنف والقتل. ويمثل ذلك من دون شك تراجعاً عن القيم التي قامت عليها الحضارة  المدنية الحديثة التي شكل أساساً لها التفكيرُ العلمي والعقلاني والتعددية الفكرية والثقافية وإلغاء كل أشكال التسلط على الإنسان والمجتمع وإشاعة قيم التسامح والاختلاف، رغم كل نقاط الضعف التي اعترضت تطبيقها.

إن استفحال هذه الظاهرة أثار القلق الشديد في العالم بأسره، وقد أثبتت التجارب، أن مجابهة هذا الفكر أمنياً وبقوة السلاح وحده لا تعطي نتائج حاسمة. إن أنجح سلاح لمحاربة هذه الظاهرة هو بتكريس الحالة الفكرية المناقضة لها. فالتعصب والتفكير المنغلق لا يمكن مواجهتهما إلا بفكر عقلاني مستنير يكشف زيف الأفكار التي يؤمن بها المتعصبون أو المتطرفون فكرياً، ويبين أن الحقيقة ليست مطلقة أو ملكاً لأحد أو لشعب أو لطائفة ما، بل نسبية وخاضعة للتطور والتغيير. إن الفكر التنويري المستند إلى العقل المجرد من الأفكار المتحيزة أو الشخصية يعتبر أفضل وسيلة لمحاربة الأصولية. إذ يمكن من خلال أدواته الفكرية والمنطقية تفنيد الأسس التي بنيت عليها هذه الظاهرة، وتبيان مكامن الخلل فيها، إضافة إلى مناقشة طريق الوصول إلى اليقين، وتبيان خطورة الاعتماد على اليقين الذاتي فقط، معياراً لصحة الأفكار أو المعتقدات التي تحملها فئة ما.

إذا كانت الأصولية سمة النصف الثاني من القرن العشرين حتى يومنا هذا، فإن الثقافة الاستهلاكية أضحت السمة الأخرى، وتزامنت مع بروز ظاهرة العولمة. ويأتي انتشار هذه الثقافة بعد تراجع الفكر بشتى ضروبه من الساحة الثقافية العالمية، خصوصاً بعد انتهاء الحرب الباردة، وبروز شريحة الاقتصاديين أو دعاة اقتصاد السوق بديلاً لقيادة العالم، وهؤلاء جاؤوا بقيم وممارسات أدت في النهاية إلى أزمة اقتصادية عالمية حادة، من دون صور مؤشرات حاسمة على انتهائها حتى الآن. وقد نتج عن انحسار الفكر والمفكرين أن تفشت مظاهر سلبية عديدة خلقت مشكلات جديدة تجاوزت طبيعتها وحدّتها المشكلات المعروفة. ولعل أسوأ مظاهر غياب الفكر بأبعاده الإنسانية والحضارية، هو بروز مظاهر الثقافة الغريزية بحيث أصبحت غرائز الإنسان مثل الهيمنة وحب التملك والجنس والعنف وغيرها علامات بارزة في مختلف المجتمعات. كما عززت الثقافة الاستهلاكية بشكل غير مسبوق قيم الانتهازية وتحقيق الأهداف والرغبات الشخصية، وخصوصاً الغنى والربح المادي بشكل سريع وبشتى السبل، إذ أخذت الوسائل غير الشرعية بالانتشار، وتحولت تدريجياً إلى قيم ثقافية أو بالأحرى إلى ثقافة وسلوك لتحقيق ما يريده المرء من أهداف. لقد امتد الأمر إلى ظاهرة تشيؤ الإنسان، أي إعطاء قيمة للإنسان من خلال ما يملكه من أشياء، بغضّ النظر عن سلوكه وقيمه ومدى أصالة ثقافته أو دوره الخيّر في الإطار الاجتماعي الذي يعيش فيه.

وبذلك أصبحت المظاهر الاستهلاكية والشكليات مقياساً لتحديد قيمة الإنسان، وليس مضمون شخصيته الذاتي وما تحمله هذه الشخصية من قيم أو مواقف. لقد أجهضت الثقافة الاستهلاكية معظم المعايير والقيم الرصينة التي تميزت بها الكثير من المجتمعات، التي حافظت من خلالها على الروح الجماعية لشعوبها، وقدمت الصالح العام على المصالح الضيقة والشخصية، أضف إلى أنها كانت العامل الأساسي لتفشي مظاهر الأنانية وحب الذات والمصلحة الشخصية الخاصة إلى جانب المشكلات الاجتماعية الحادة التي جاءت مع تلك الثقافة.

لا شك في أن العودة إلى أفكار التنوير من جديد، لأجل إحداث تغيير فكري يعيد للعقل تلك البصيرة النيرة التي تراجعت في معظم أنحاء العالم، تأتي مدفوعة بمجموعة من الأسباب التي ذكرناها. إن التركيز على الثقافة يمثل الوجه الجديد للتنوير، بمعنى أن نقد الثقافات المختلفة، ومحاولة معالجة مكامن الخلل فيها هو مايركز عليه عمل من يسعى لإحياء التنوير وأفكاره. إن نقد الثقافات الدارجة التي يؤدي الكثير منها إلى الصراعات وإلغاء الآخر وغيرها من المظاهر السلبية يجب أن يكون محتوى الثقافة التنويرية.

فإذا اتخذ التنوير بعداً ثقافياً فسيكون لذلك آثار عدة. إن أول ما يمكن أن يقوم به هو تغيير طُرق التفكير في عدد من الثقافات التي تنتشر فيها الجوانب الغائية والذاتية والمعرفية في الغيبيات إلى التفكير العقلاني. وهذا سيقود لإعادة النظر في العديد من القيم والمفاهيم والممارسات في ضوء ذلك. ومن جانب آخر قد يفتح ربط التنوير بالثقافة أبواباً جديدة للفلسفة لم تطرقها من قبل. إن البعد النقدي الفلسفي لمفهوم الثقافة، وتحليل مظاهرها المختلفة، والبحث في أوجه التشابه فيما بينها، وإدخال الفلسفة في طرق جديدة قد تقود لأن تصبح أكثر التصاقاً من ذي قبل بواقع الإنسان وحياته اليومية.

إن ما يعيشه عالم اليوم من أزمات ومشكلات وقضايا متعددة، وما تمخض عنها من نتائج سلبية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية والديمغرافية  وغيرها، وغياب الوجهة الفكرية التي توجه الإنسان إلى سلوك السبل الكفيلة بخلق واقع أفضل، جعلتنا نعيش في عالم تغيب عنه الحكمة والتفكير والالتفات إلى القضايا الأهم، وهيمنة الجوانب الغريزية على الإنسان، وأصبحت الأجيال الناشئة تواجه مشكلة الضياع في عالم يتجرد شيئاً فشيئاً من قيمه الإنسانية. وإذا كان البعض يرى أن المستقبل المظلم هو ما ينتظر هؤلاء، فلا يوجد طريق مواجهة هذا المستقبل إلا من خلال العقل المستنير الذي قاد البشرية في أحلك الظروف، ويجب أن يقودها إلى عالم أقل حدة، وأكثر إشراقاً.

العدد 1140 - 22/01/2025