من جوري البستان

ابن (أبو ضرغام) بياع الحليب، الفتى القصير القامةِ! زميلُ حصةِ الرسم، منافسي. مدهشٌ كان تآمره وخياله على اللون، يغلباني. لمَ لُمتني، أمي، حينَ قبلتُ هديته؟ بستانهم القريب يكتظ به، أخبرني أن الورد يفوحُ بيدي. ومن يومها (جوري)، يناديني.

كنا نعبر المشاتلَ مسرعين، قبل أن يتكاثر الرخام ويلتصق بوجه الأبنية. قبل أن تخلعه الحرب وتكومه في جيوبها. نركض صوب النهر القديم.

– ياه، كم من الأخضر يجاوركَ، كنت أظن أن فناء بيتنا الأكبر في المدينة، وأن اللبلاب وحده يحجب الأفق. هنا تدرس! لا طاولة ولا كرسي، ولا عصير (ينشط الذاكرة)! لمَ لا تجلّد كتبك؟ تكوي قميصكَ؟ أما مللتَ تأنيبَ المعلمة؟ لا يجيب، يخطف يدي ونلاحقُ أغنامهم الصغيرة.

كبرنا، وانتقلتُ إلى مدرسةِ البنات، (عيب التحدثُ مع صبي الآن). شرائط جديلتي عُقدتْ، وفـــــــرغتْ من الوردِ زهريتي. في خــــــــريف الدروب يتجاهلني مثلما أفعل، الخــــريف الذي يغيــــبُ عن بستانهم.

– يا عم،أريد السيارة خاصة بإيصالي وحدي، يقولون إن الطريق الدولي غير آمن. أجهل ما حلَّ بدمشق، والشرق القصي أبعدني.

– شابّ حجز قبلك معي. نكتفي به! سوريُّ مثلك. ربما من الأفضل أن تضعي حجاباً ابنتي. لا تظهري هويتك عند الحواجز، اكتفِ بجواز السفر.

أعليَّ هذا كله من بيروت إلى الشام! مدينتان لا تحجبهما سوى الشمس؟

هذا الملتحي، يا اللـه! ما أصابَ الشباب في البلاد؟ يبدو غاضباً، ربما أحرقتْ له الحرب عمراً، قتلتْ حلماً. هُجّر، يتّم، فقدَ غالياً! كلنا مقهورون، فاقدون، مفقودون. وعبرتنا الجروف مشوشة الخطا والمزارع.

– إنها نقطة المصنع اللبناني، أعطني جوازك أضعه بالدور، تلحقين بنا بعد قليل. أجشَّ الصوتِ كان الشاب، مجعدَ الجبين.

(سورية ترحب بكم).. أيتها الدروبُ الداكنة مازلتِ تبتسمين بفمكِ الملطخ بالرصاص، وأحمر سواترك المتشققة.

حواجز لا تنتهي، ونقاط تفتيش. والشاب، لمَ يحدق بي هكذا؟ لمَ يحملقُ الآن؟ بنتُ البلد ويحق له هنا أن يفعل؟ ليت السيارة القادمة تهشم مرآته الجانبية، ماذا يرى من وجهي؟ حجابه الذي ابتلع نصفه؟ أم سواد نظارة تخفي تلبكَ الجفنين؟

– أفٍّ من التوقف، متى نصل؟ حاجز جديد أمامنا.

– انزلوا جميعاً.

مريبة الوجوه هذه المرة. يمضي إليهم الشاب، يعرفهم. يا الله! ليسوا من الجيش؟ متشددين، إنهم متشددون!

هل سورية حقاً من كانت ترحب بنا؟ أيا أفكاراً جيدةٍ، توقفي! فشلَ دعمك.

النهاية إذاً ، امرأة في أطراف البلاد، من ملّةٍ حرّة، غادية عائدة بلا محرم، علمها حرام، صوتها، وجهها، كلها عورة. والحدُّ يقام على أعناقِ الضّالين. أخبرتُ السائق أريد السيارة وحدي، ربما كان معهم ه والآخر. كفاكِ افتراساً، أيتها البلاد، لطيبةٍ ليس سواكِ من ينبتها!

يضيقُ الكون وينحشر في لحية الشاب، قادم وحده. كان من الممكن أن أحتفظ بزجاجة سمٍّ من ذاك العطار الهندي، بخنجرٍ صغير أسرقه من معبدٍ قديم. ها أنذا أقف قبالته عزلاء، إلا من تحدٍّ ممشوق القامة مرتجفِ القلب.

– اصعدي يا (جوري) تصلينَ بالسلامة!

هو!

– يا إلهي! لم تُسْكِ الراية السوداء ورديّ الاسم. ماذا تفعل هنا إذاً؟ من هؤلاء، كيف سلبوكَ النهر القديم؟ انظر أخضر الأغصان لايزال يهبط من كُميّك. لم يسمعني، لن يفعل.كان الفم العاجز، الصوت حينَ تخرسته التراتيل و يلجمه النقاب.

السيارةُ الناجية من الجَلدِ، مسرعة مضتْ نحو الديار، وفي ظلامِ مرآتها الجانبية غابَ، بعيداً محترقاً بستان الجوري.

العدد 1140 - 22/01/2025