الصبر مقبرة الأوجاع

ليس للمطر فائدة إذا لم يسقِ الشجر والبشر، ولا للزهرة رونق وبهاء إذا لم ينتشر عبيرها في كل اتجاه.. ولا فائدة من نحل لا يعمل لجني العسل، ولا لشمس عظيمة إذا لم تشرق في كل صباح على الأكواخ والقصور.

ولكل وجعه وأحزانه وقلقه..

ولولا الوجع ما ظهر الخير والفرح.

وهل يصير العجين خبزاً إذا لم يتألم بعد دخوله الأفران، أو يصقل الحديد من دون طرق، ويجنى من العنب الدبس والخمر من غير غلي وعصر؟!

(وما اللؤلؤة إلا ابنة الوجع الطويل، وثمرة داء دفين).

إن حبات المطر توجعت كثيراً قبل أن ترتفع لتكون غيمة، والغيمة أشعلها البرق ودوى بين جنباتها الرعد قبل أن تمطر، وبذرة الزهرة نامت طويلاً في التراب قبل أن تشق الأرض وتخرج جمالها وعبيرها، والشمس تحترق في كل لحظة ألف مرة قبل أن تهدينا نورها وحرارتها.

(إن الوجع واللذة كالنور والظلام، كل ينبع من الآخر، فكيف سيضحك المرج إذا لم يبك السحاب، وهل ينال الطفل اللبن بغير بكاء؟!).

كثير من الحكماء والفلاسفة والأدباء والفنانين لا يسعدون إلا بقدر ما يتألمون، فالذي يعاني من كتابة قصيدة جميلة، أو رسم لوحة رائعة، أو إبداع جمل وعبارات فيها الحكمة والموعظة لا يقل شأناً وعظمة ورفعة من مهندس مبدع وطبيب حاذق ومدرس بارع.

دائماً هنالك وجع وألم وحزن، وقلق وكآبة خلف كل عمل عظيم، فلا النور يسبق النار، ولا الزهر الثمر، ولا الورق الغصن، ولا الموج هبوب العاصفة.

(إن الوجع يؤثر فينا ضعف ما تؤثر فيها الذة، وقد يمنحنا الوجع والألم نوعاً من يقظة الضمير، فلا شيء يصيّر العظماء عظاماً مثل الوجع العظيم).

إن الوجع المفيد يعطينا حسب اجتهادنا ومعرفتنا، فشعور الإنسان يختلف باختلاف وجعه وتعبه، فحين يأكل تفاحة مقدمة له من الآخرين إحساسه بطعمها لا يشبه ذاك الإحساس الذي يجده عندما يتناول تفاحة من كرمه الذي توجع في حرثه وتنظيفه من الحشرات والعقارب والعشب المر. وحين يبدأ الفيلسوف بتأمل الدنيا يبدأ وجعه المثمر فلا يعود يجد وقتاً وطعماً للكلام، بل للصمت، ولا راحة في النوم، بل في السهر ولا لذة في الأكل، بل في الصوم.

وما أكثر الأوجاع التي لا تثمر إلا الغبار والعواصف، وما أقل وأروع الأوجاع التي لا تجد مجدها وعظمتها إلا بالإبداع وفعل الخير.

أصحاب الأوجاع العظيمة كالمصابيح المنيرة، يحترقون، ويتوهجون من أجل شق طريق، وإضاءة عتمة.

حقاً إنهم يحترقون.. وبصدق إنهم يتوهجون، وإن كنا لا نرى على وجوههم آثار الحرق وعلى أصابعهم علامات الوهج، فالقدور تغلي من الداخل، والينابيع تنبع من الأعماق.

إن أوجاع الجسد، مهما عظمت، تتلاشى.. وأوجاع الروح تظل عالقة بالروح. والوجع العظيم يولد العظماء والعباقرة).

مثلما النار تولد النور، والمعرفة الزائدة، وجع زائد، فكلما كبر الرأس، ضاق الصدر (وما الوجع إلا امتحان لفضائل النفس وصقل لمواهبها). فكن يا صديقي كالأرض التي مهما أصابها من وجع وألم وشقاء، لا تصرخ ولا تستغيث، فالصبر مقبرة الأوجاع.

العدد 1140 - 22/01/2025