التربية الوظيفية والتنمية

اعتبر قادة المجتمع سابقاً التّربية مشروعاً ثقافياً، أمّا اليوم فأصبحت المجتمعات جميعها – الرّأسمالية منها والاشتراكية- تنظر إلى الحركة التّربوية على أنّها مشروع اقتصادي، ولم تعد التّربية حانوتاً يدار بأساليب إدارية حرفية وإنمّا غدت مؤسسة كبيرة وصناعة من أكبر الصّناعات وأهمها، فلا بدّ إذاً من أن تدخل في حركة تسييرها وتطويرها الأساليبُ الصّناعيّة والتّقنية الحديثة القائمة على عمليات المكننة والتّحليل الإجرائي والبرمجة. فلم تعد التّربية، في عصرنا هذا، مشروعاً للاستهلاك بل بدأت تتحوّل إلى شركة مثمرة أو منتجة، والتّثمير فيها هو تثمير إنتاجي. وينبّه علماء الاقتصاد التّربوي إلى أنّ التّربية بدأت تُشكل صناعة من الصّناعات أو مشروعاً اقتصادياً يمكن أن تُطبّق عليه المفاهيم الإجرائية السّائدة في تحليل العمليات الاقتصادية.

وقد أوضحت مجلة (المستقبل العربي) في عددها الثالث أنّ التّنمية البشرية هي قاعدة كلّ تنمية اقتصادية، فمن المعطيات الأولى أنّ التّنمية تستهدف الإنسان غايةً وتصطنعه وسيلة، والإنسان القادر على الإبداع وتجاوز الواقع هو الّذي يصنع التّنمية، لأنّ التّنمية هي تغيير في علاقات الإنسان مع الطّبيعة، وتغيير في العلاقات بين النّاس، كي يصنع – أي الإنسان – واقعاً أفضل في إطار أهداف اجتماعيّة محدّدة، إذ إنّ العمل اليوم يعتمد على التّطبيق العملي للنظريات العلمية.

ونلاحظ خلال العقود الثّلاثة الأخيرة أنّ الدّول المتقدمة قد ربطت التّربية بالإنتاج، فالمشروعات الجديدة لتنمية الاقتصاد الوطني في الاتحاد السّوفييتي سابقاً تطلبت مثلاً زيادة الإنتاج في الأفلام التّعليمية من نوع خاص، وكان الهدف الرّئيسي لها مساعدة عُمّال المهن من الميكانيكيين والزّراعيين والطّهاة ليتعرفوا إلى المعدات التّكنيكية الحديثة وإتقان استخدامها، وهذه الأفلام لا تستخدم الإنجازات التّكنيكية فقط، وإنما تُعلّم جوهر العمل وفي تعليمها تربية الثّقافة التّكنيكية.

والمقصود بمفهوم العمل هنا هو تلك الفعاليات الّتي ينبغي للمتعلّم أن يتدّرب عليها بحيث تغدو جزءاً من سلوكه، وبحيث تنمو شخصيته نمواً متوازناً متكاملاً من مختلف جوانبها الجسدية والانفعاليّة والعقلية والاجتماعيّة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يُقصد بالعمل مجموعة الأنشطة الضّرورية الّتي يقوم بها المتعلّم ويتدّرب بواسطتها على ممارسة بعض الأعمال المتعلّقة بها والّتي تُلبي حاجة أو أكثر من حاجاته الشّخصية.

إذاً باتت حاجة المجتمعات اليوم هي النّهوض بالعملية التّربوية، فهي لم تعد مشروعاً ثقافياً فقط، بل انتقلت من أبراج التّجريد والتّأمل إلى واقع الحياة أي إلى الاندماج بحياة العمل والإنتاج.

وقد أكّدت ذلك مجلة (الإنماء العربي) بقولها: إنّ إنسان هذا العصر قد أخذ به واقع التّغيير والتّطور إلى أن: ينتقل من مزاولة نشاط معين إلى مزاولة نشاط آخر في ضوء حاجته الفردية وحاجة الجماعة، على أن يمارس خلال هذا الانتقال العمل الفكري واليدوي معاً، وذلك لأنّ من أكبر الشّرور الّتي يُمكن أن تُحيق بالإنسان، أن يفصل لديه العمل الفكري عن العمل الجسدي، إنّ مثل هذا التّخصص الثّقافي عبء نفسي اجتماعي اقتصادي ينوء بحمله الإنسان.

لذلك نحن بحاجة اليوم إلى نهج تربوي – تعليمي هيكله التّخطيطي مبني على أساس أنّ العمل هو محور الحركة التّربوية، أي جعل العمل حجر الأساس في الحركة التّربوية والتّأكيد والتركيز عليه من حيث هو قيمة، ومن حيث هو معرفة ومهارة، وهذا معناه الاهتمام بالربط بين الفكر والعمل، باعتبارهما الجانبيين الرئيسين في الخبرة الإنسانية.

وأن يركّز هذا النّهج المبني على العمل، على الجانب السيكولوجي الّذي يرى في العمل حاجة طبيعية في الإنسان، إضافة إلى مراعاة اهتمام الطّفل وحاجاته في عملية التّعلّم.

إنّ إدراج العمل في الحركة التّربوية ضرورة سيكولوجية مع الانتباه لعدم الإساءة إلى نمو الطّفل نمواً سليماً وصحيحاً. وذلك بأن تضع الحركة التّربوية بحسبانها التّفاعل بين المؤثرات البيئية والقوى النّفسية الدّاخلية، إذ إنّ البيئة لا تؤثر في الفرد من الوجهة النّفسية إلاّ بقدر ما تثيره من نشاط، ولا ينشط الفرد إلاّ استجابة لحاجة نفسية يشعر بها. ومن الضّروري التّأكيد أنّ نموّ الفرد من النّاحيتين العقلية والتّحصيلية، ليس نتيجة لانطباع القيم الثّقافية وأساليب التّفكير في عقل الطّفل، وإنما هو نتيجة لتلك الخبرات الّتي يكتسبها عن طريق النّشاط الّذي يقوم به سداً لحاجاته النّفسية الّتي يشعر بها.

كما أنّ التّربية على العمل تقتضي وضع المتعلّم في المناخ المناسب الّذي يساعده على تفجير طاقاته، وقد أوضحت ماريا مونتيسوري ذلك بقولها: للكشف عما يقوى عليه الطّفل لا يكفي أن ندعه يعمل، بل علينا أن نضع في متناوله جميع الأشياء الّتي من شأنها أن تُيسر انطلاقته…

وقد ميّز بلوك بين ثلاثة مستويات للعمل:

1. العمل اللّفظي: أي أن نمنح الطّفل حرية المشاركة في الحديث والكلام، وقد نسب هذا المستوى إلى الحكيم سقراط، الّذي استخدم الحوار طريقة للتعليم والتّعلّم معتبراً إيّاه الطّريق الأصلح لتوليد الأفكار ومعرفة الحقائق.

2. العمل الحركي: ويقصد به العمل الّذي تُعطى فيه للطفل حرية الحركة والانتقال، فلا تقييد ولا تحديد لها، بل إنّ الطّفل يتعلّم وهو يعمل.

3. العمل الرّوحي: في هذا المستوى يُسمح للمتعلّم بالمشاركة في برمجة دراسته وأن يقوم بالمهمات اليدوية والعملية الّتي يستطيع بفضلها أن يبرمج هو بنفسه التّدريبات بدلاً من الاكتفاء بمشاهدتها تحدث أمامه.

ولكنّ علينا الانتباه إلى أنّ منح المتعلّم حرية الحديث أو الحركة أو العمل أو المشاركة في برمجة دراسته وفق المستويات السّابقة لا يُمكن أن تكون طوعية باستمرار ولا أن تترك لتلقائية المتعلّم، وإنما ينبغي لفعاليته أن تغدو فعالية وظيفية، ولا يتحقق ذلك إلاّ بالتّدخل الإيجابي من الكبار أو المشرفين على الحركة التّربوية – التّعليمية للمتعلّم بحيث تتحوّل إلى فعالية وظيفية، وقد شرح كلاباريد ذلك بقوله: إنّ الفعالية لا تعني أن يُسمح للطفل بفعل ما يريد، بل أن يريد كلّ ما يفعل، وذلك بأن تكون تلك الفعالية وظيفية.

إذاً المقصود بالتّربية على العمل:

1. أن تتوجه الحركة التّربوية إلى الكائن البشري من حيث أنّه جسد وقدرات نفسية وعقلية، وسلوك وعلاقات اجتماعيّة، ومن حيث أنّه لا يمكن الفصل بين معارفه النّظرية ومهاراته العملية ومواقفه واتجاهاته. وهذا يعني أن تتمثل الوظيفة التّربوية بدمج مظاهر النّشاط للشخصية الإنسانية في كلٍّ واحد، غايته تكوين الإنسان العامل المنتج والمثقف في آنٍ واحد.

2. كي تكون التّربية متوائمة مع روح العصر وحاجاته لا بدّ لها أن تنطلق أساساً من العمل اليدوي العضلي الّذي يتم بوساطة ربط العمل بالنّظر ربطاً يستند إلى ما يفرضه التّقدم العلمي والتّكنولوجي من معطيات وحقائق تتلخص في الحكمة الآتية: إنّ العمل مهمة اجتماعيّة أكثر منه سبباً للعيش أو سبيلاً إليه.

إضافة إلى كلّ ما سبق هو سبب من أسباب بلوغ النّموّ غايته الرّئيسيّة. فالأشخاص الّذين يطالعون ويكتفون بالمطالعة ولا يهضمون ما يقرؤونه يظلون بعقولهم كالأطفال إلى أن يمارسوا الواقع ممارسة فعلية، عندئذ فقط يكتمل نموّهم لا في عملهم وحسب وإنما في شخصياتهم.

أخيراً، إنّ المقصود من إدخال العمل المنتج في الحركة التّربوية هو إعطاء المتعلّمين المعارف والمهارات الّتي من شأنها أن تُحسّن إنتاجية الحرف اليدوية، وتؤهل المتعلّمين للمشاركة في الهيئات والتّنظيمات الحاصلة على مستوى المجتمع المحلي، وهذا كفيل بتنمية الصّفات الكفيلة بالاستقرار الاجتماعي، وإنتاجية العمل والرّفاهية الفردية وزرع الصّفات الأخلاقية الإيجابية مثل المثابرة والدّقة والرّوح الإبداعية الخلاّقة، والاعتماد على النّفس، وروح التّعاون… كما أنّه يسهم في تخفيض كلفة التّعلّم وذلك بتأمين التّمويل الذّاتي للتجارب والصّناعات البسيطة عن طريق التّسويق للمنتجات الصّناعية والحرفية والزّراعية الّتي ينتجها المتعلّمون في الورشات والمزارع والحدائق المدرسيّة، وإبعاد الأطفال واليافعين والشباب عن حياة الشّارع وتحبيبهم بالمدرسة لأنّها مكان يؤمن حاجاتهم،كما علينا العمل على تحسين فعالية المناهج التّعليميّة بأن نُدخل إليها موضوعات أكثر ارتباطاً بالواقع المحلي الّذي يعيشه المتعلّم، والاهتمام بالأنشطة الّتي من شأنها تسهيل عملية التّعلّم وتقوية النّشاط الفكري بشكل صحيح وفعّال.

المصادر والمراجع:

– مجلة التّربية الجديدة – العدد 23

– مجلة عالم الفكر – المجلد 10

– فولكييه – المدارس الحديثة.

– تعلّم الطّفل – إسماعيل ملحم.

العدد 1140 - 22/01/2025