فنون الهرب في زمن العجب

قد لا تبدو الفكرة موفقة، أعني فكرة إلحاق الهرب بعائلة الفنون باعتبار أن الهرب هو مجرد رد فعل يمارسه الإنسان ـ أو الحيوان ـ عند الشعور بالخوف من خطر داهم، لكن قياساً إلى التنامي الكبير الذي طرأ على أعداء المنتسبين الجدد إلى هذه العائلة الكريمة (فن الطبخ ـ فن قيادة السيارة ـ فن الإتيكيت… إلخ) حتى غدت أشبه بالقبيلة فلا أرى ضيراً في قبول هذا العضو المشاكس فيها.

هو رد فعل دائماً، أي أنه يضمر السلب في ذاته، فلا عجب أن ترد كلمة هرب غالباً مقرونة بشتى النعوت السلبية الراسخة في الوعي الجمعي كملحقات أو ربما مرادفات لها: جبن ـ تخاذل ـ خيانة.. إلخ، ولكن الطفرة التي طرأت على أنماط حياة الإنسان في العصر الحديث وتفاقم التعقيدات والإشكاليات في العلاقات الإنسانية أفرز أشكالاً جديدة من المخاوف استدعت ابتكار أنماط هروب جديدة لا يصح إدراجها تحت هذا التوصيف المبسط لفعل الهرب، فمخاوف إنسان هذا العصر لم تعد مقتصرة على ذلك الخوف الأزلي من الموت، الذي كان يدفع بأجدادنا إلى الهرب اتقاء الوقوع في براثن وحش كاسر أو عدو فاتك، بدافع من حب البقاء لا أكثر، بل تعدته إلى أشكال أخرى من الخاوف الناجمة عن أخطار قد تبدو أقل شأناً من حيث أنها لا تهدد ديمومة الحياة ولكنها على كل حال أخطار كفيلة بإثارة نزعة الهرب في نفوس أشجع الشجعان.

يستطيع كل منا أن يستحضر بعضاً من تلك المخاوف التي روّض نفسه على التعايش معها والعيش في ظلالها وعلى تخومها دون الحاجة إلى النبش عميقاً في الذاكرة، لنتذكر مخاوف الطفولة الساذجة التي قد تبدو لنا اليوم أشبه بالنوادر والطرائف مع أنها لم تكن أبداً كذلك في حينها: الخوف من تقريع الأهل ـ الخوف من الجان والعفاريت ـ الخوف من مطهر الأولاد (للذكور فقط طبعا) ـ الخوف من مدرس مادة الرياضيات (الحازم). ويمضي بنا العمر لتتطور مكامن خوفناً وتتعقد أسبابه: الخوف من نقمة رب العمل ـ الخوف من كمائن الجزار والسمان مطلع كل شهر ـ الخوف من مفتش باص النقل الداخلي ـ الخوف من عداد تكسي الأجرة… إلخ.

مثل هذه الأشكال من المخاطر العصرية الداهمة تفرض على ضحاياها تطوير طرائق ووسائل مبتكرة لمواجهتها والحد من تأثيرها.. وسائل لا يرى فيها فاعلها ما يستدعي الذم أو اللوم ولا يقبل بإدراجها تحت عنوان الهرب باعتبار أنها مجرد مناورات تكتيكية اضطرارية بريئة غالباً ما يفرضها واقع لا سبيل إلى تغييره.

أليس الإدمان على العمل شكلاً من أشكال الهرب؟ أليس هاجس الهجرة شكلاً من أشكال الهرب.. مشروع هرب على أقل تقدير؟ ماذا عن الانتظام في عجلة المجاملات الاجتماعية الزائفة؟ ماذا عن عادة ارتياد المقاهي؟ وماذا عن الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي؟

أكثر من ذلك.. أليست الكتابة وغيرها من فنون الأدب والإبداع ـ بطريقة ما ـ أشكالاً (راقية) من أشكال الهرب؟

في هذا الزمن، الذي أقل ما يمكن أن يقال في وصفه أنه زمن رديء، هل يمكن لأي كان الادعاء بأنه لم يمارس شكلاً من أشكال هذا الفن العصري؟ على الإطلاق؟!

لعل إدراك الوعي الجمعي لعمق هذه القضية وتعقيدها هو ما استدعى طرحها أحياناً بصيغ تتناسب وطابعها النسبي وبأسلوب لا يخلو من نبرة تبريرية، فإذا به (هروب إلى الأمام) حيناً و(تلتين المراجل) حيناً آخر و(تهرب) أحياناً، والغاية دوماً الوصول إلى صيغة مشذبة تخفف بعضاً من فجاجة كلمة هرب ووطأتها.

المسألة نسبية ولا شك، فمن غير الإنصاف مثلاً وضع الحالات الآنفة الذكرة من الهرب في مقام واحد مع الهرب من ميدان القتال الذي يستوجب كل ذم وقدح وعار، ولكن سواء سميناه هرباً أم تهرباً.. إلى الأمام أم إلى الوراء.. مرجلة أم (فذلكة).. اضطراراً أم اختياراً، فهو في النهاية طبع أصيل في النفس الإنسانية يأبى إلا أن يجد له متنفساً أحياناً..؟ أين ومتى ولم؟ هنا تكمن العبرة.

العدد 1140 - 22/01/2025