تبقى المرأة متهمة حتى لو ثبتت براءتها

معلوم تماماً أن جميع الحروب وعلى مرّ التاريخ الإنساني تشهد أعمال عنف واضطهاد ضدّ النساء باعتبارهنَّ الحلقة الأضعف في سائر المجتمعات، بهدف إضعاف وإذلال الخصم من جهة، ومن أجل إرواء شهوات دنيئة تجد في الحروب والنزاعات متنفساً لها.

 رغم كل ما شهده المجتمع السوري من فظاعات العنف والقسوة والاضطهاد على مدى ما يُقارب الأربع سنوات، ورغم كل ما لاقته وتُلاقيه النساء في زمن الحرب من ويلات وكوارث متعددة سواء على المستوى الشخصي أم العام، ورغم الثمن الباهظ الذي دفعته عموم نساء سورية من استشهاد الأبناء والأزواج ودمار ملاذهن الآمن من سكن وأسرة، ناهيك عن الخطف والاغتصاب والقتل، حيث تُعتبر أولئك النساء دافع الضرائب الأكبر أثناء وما بعد الحرب ليس في سورية فقط، وإنما في سائر المجتمعات، رغم كل هذا الواقع الأليم والمفجع، لم يزل مجتمعنا للأسف يحتفظ بمفاهيم كان من الممكن أن تتوارى، إن لم نقل تندثر أمام ما تُكابده النساء من خطف وسبي واغتصاب باعتبارهن مشجب الشرف بكل تبعاته في مجتمع لا يرى هذا الشرف إلاّ من خلالهن فقط، مُتناسياً ومتجاهلاً كل الأفعال البعيدة سنوات ضوئية عن الشرف والتي يقوم بها الرجال، سواء تلك الحروب التي تدمّر الحياة والمجتمع بكل مكوناته، أو تلك الأفعال الشنيعة التي يعتبرها كل طرف مصدر إذلال للطرف الآخر.

وانطلاقاً من هذا، نجد أن الغالبية العظمى من النساء اللواتي يتعرّضن لمثل تلك الأفعال يتخذن من الصمت ملاذاً قاتلاً كي لا يقعن تحت مظلة الإدانة الاجتماعية والدينية من جهة، ولأن بعضهن يشعرن أنهنَّ انتهكن قيم الشرف والعائلة رغم أن ما جرى لهن كان خارج إرادتهن، وذلك بحكم تلك المفاهيم التي لا زالت متشبثة في تلافيف الذهنية الاجتماعية التي تدين المرأة ولو كان الأمر خالياً حتى من أدنى شبهة، إضافة إلى الكثير من القصص التي سمعنا عنها من إدانة بعض النساء البريئات، وبالتالي خسارتهن لحياتهن الأسرية وتشويه سمعتهن في المجتمع.

سناء سيدة متزوجة وأم لأربعة أولاد، تعرّضت قبيل عيد الفطر الماضي للخطف من قبل جهة مجهولة مدة يوم كامل، ثمّ وُجِدت ملقاة على أحد الطرقات الدولية منهكة وخائرة القوى، ورغم إصرارها على عدم تعرّضها للاغتصاب، ورغم أن الطبيب الشرعي الذي قام بمعاينتها أمام زوجها قد أكّد عدم تعرّضها للاغتصاب، فقد طلقها هذا الزوج دون أدنى شعور بالذنب تجاه المرأة التي عاش معها قصة حب كانت حديث القاصي والداني، أو إحساس بالمسؤولية تجاه أبنائه الذين منعهم حتى من رؤيتها، فقط للتخلّص من مجرّد الشبهة، وكي لا يُعيّره الأهل والمعارف والجيران بزوجة مخطوفة ربما تعرّضت للاغتصاب، غير عابئ بالظلم الذي وقع عليها كزوجة وأم وأنثى في مجتمع لا يرحم، حتى باتت تلك الزوجة تعيش حالة هذيان وذهول استحوذ على كل أيامها.

وبهذا، فإن الإدانة والجزاء كانا من نصيب المرأة فقط رغم تأكيد الطبيب الشرعي براءتها، دون حتى الإشارة إلى أولئك المجرمين الذين ظلوا أحراراً ينعمون بحياة طبيعية، ودون اتخاذ ولو موقف بسيط حيالهم أو محاولة التعرّف إليهم من أجل إدانتهم أمام المجتمع إن لم نقل معاقبتهم.

بالتأكيد، سناء ليست المرأة الوحيدة التي لقيت هذا المصير، بل هناك العديد من النساء اللواتي لم يعلم أحدٌ بهن، وتُركن لمصير مجهول ومرعب بحكم التفكير التقليدي العفن الذي لا يرى من الشرف سوى ما يتعلق بسلوك ومصير المرأة.

وهنا، أليس بإمكان أولئك الرجال المتشبثين بما يعتبرونه شرفاً مسّه رجال آخرون، أو حاولوا ولو مجرّد التعرّض له، أليس بإمكانهم أن يكونوا رجالاً بحق، ويعملوا على حماية ودعم أولئك النساء نفسياً واجتماعياً حتى يتم تلافي تشريد أسرة بكاملها، إن لم نقل موت المرأة اجتماعياً ونفسياً..؟ ثمّ ألا يمكن لهؤلاء الرجال أنفسهم أن يتعرضوا لمثل ما تعرّضت إليه المرأة من اغتصاب لا يرحم امرأة أو رجلاً أو طفلاً زمن الحرب..؟ هل يقبل أولئك الرجال مجرد الإدانة أو التهمة من المرأة..؟ أم يعتبرونها عديمة الوفاء لا يمكنها الصبر على ما ابتُلي به الرجل لتكون سنداً ودعماً له.؟

لماذا تكون المرأة في تلك الحالة عديمة الوفاء، بينما إذا قبل الرجل وضعها كان عديم الشرف، مطعونٌ برجولته اجتماعياً إذا قبل بما لاقته زوجته أو ابنته أو أخته من خطف أو اغتصاب خارج عن إرادتها في مطلق الأحوال…؟

لذا، نجد أن أكبر وأفظع ما تواجهه المجتمعات التي تشهد حروباً والعاملون في حقل المعالجة النفسية وإعادة التأهيل، هو المصير المأساوي للنساء المغتصبات أو المختطفات من نبذ اجتماعي وتشرد بعد فقدانهن لملاذهن الأسري الذي سيؤدي حتماً إلى أزمات نفسية وصحية خطيرة تُعانيها أولئك النسوة، مما يُعيق الإسراع بنهوض المجتمع من كوارث وويلات الحرب، إذ يغدو هذا المجتمع أمام حرب من نوع آخر، حرب لا تُسفك فيها الدماء، ولا تُدمّر البيوت والمرافق، وإنما يتمّ تدمير شريحة واسعة من نساء تحمّلن وبصبر وعزيمة وشجاعة كل تبعات الحرب الأولى، وبدل أن يتم استيعابهن وتخليصهن من آلامهن النفسية والجسدية والروحية، تضاف إلى تلك الآلام آلاماً أشدُّ فظاعة وقهراً آلام أتت من أقرب المقربين روحاً ودماً.. 

فهلاَّ صحونا مجتمعاً وأفراداً من سُبات قيم وتقاليد ومنظومة تفكير بالية تُعيق تطور الفرد، بقدر ما تُعيق تطور المجتمع…؟ وهلاَّ أعدنا التفكير والنظر إلى المرأة عموماً على أنها إنسان كامل الأهلية والمشاعر والإنسانية جنباً إلى جنب مع الرجل شريكها في صوغ الحياة أنشودة مساواة تامة في الحقوق والواجبات؟

العدد 1140 - 22/01/2025