مغـزى الهبّة الفلسطينية الجارية

 جاء انفجار غضب الشعب الفلسطيني على الاحتلال الإسرائيلي وممارساته، هذه المرة، على يد فتية وصبية لم يبلغ معظمهم العشرين من العمر، لا ينتمون إلى أي تنظيم ولا رابطة تنظيمية فيما بينهم، وبدوافع فردية محضة. وكان هذا مؤشراً صارخاً على أن هذا الغضب المتراكم بلغ درجة الغليان، وأن هؤلاء الفتية والصبية هم المعيار الأكثر حساسية لهذه الحالة وللتعبير عنها؛ وإذا كانت القيادة والتنظيمات الفلسطينية المترهلة عاجزة عن التعبير بالأفعال، لا بالبيانات والأقوال، عن هذه الحالة من الغليان، فإن هؤلاء الفتية والصبية، وبدوافع وحمية ذاتية يتصدّون، اليوم، لهذه المهمة المقدسة، وبأسلوب جديد خارج عن أية سيطرة أو مراقبة. وفي هذا السياق، لم يكن مصادفة أن كانت القدس المحتلة مهد هذه الموجة من مقاومة الاحتلال ونقطة انطلاقها. فهي ساحة الصدام اليومي مع الاحتلال ومستوطنيه ومشاريعه التوسعية واعتداءاته على البشر والحجر، والتراث والمقدسات الإسلامية والمسيحية، وبخاصة الأقصى. وقد أكدت هذه الموجة النوعية من مقاومة الاحتلال، حتى الآن، الحقائق التالية:

أولاً – أن القدس التي أرادها الاحتلال موحّدة وعاصمة لدولته، ويواصل العمل بدأب منذ قرابة الخمسين عاماً على تثبيت ذلك، لم تكن مقسمة، منذ وقوع هذا الاحتلال، كما هي اليوم؛ يؤكد ذلك ليس فقط تصدّر القدس العربية المحتلة لهذه الهبة، كما للفعاليات السابقة ضد الاحتلال، بل وتؤكده، اليوم، إجراءات قوات الاحتلال نفسها ضد سكانها من نسف البيوت وإقامة الحواجز، وعزل بعض أحيائها، وسحب الهويات وغيرها من الإجراءات الإرهابية، فضلاً عن مختلف مظاهر التمييز الدائم والصارخ ضد سكانها، منذ اليوم الأول لوقوع الاحتلال.

ثانياً – أن هذه الهبة، أصابت إسرائيل بالشلل والإرباك على نحو غير عادي – كما تشير الصحافة الإسرائيلية ذاتها- أمام أولئك الفتية، ذكوراً وإناثاً، فلجوءهم للسكاكين أصاب أجهزة مخابرات الاحتلال وشبكات تجسسه، التي أقيمت على مدى سني الاحتلال الطويلة، بالعمى الكامل، فحقيقة أن هؤلاء الفتية ليسوا تابعين لتنظيم ويقومون بعملياتهم بدوافع فردية، وأحيانا (بنت لحظتها)، جعلت من المستحيل على أي جهاز تجسسي اكتشاف نواياهم، وفي الوقت ذاته، غداً انتزاع أية اعترافات تحت التعذيب بهدف الكشف عن امتدادات تنظيمية عبثياً لا طائل من ورائه. أما الحيلولة دون وصول هؤلاء الفتية والصبية إلى السكاكين، فهو عبثي بالمقدار نفسه. وقد اقترح أحدهم على نتنياهو، ربما من باب السخرية، مصادرة كل سكاكين المطابخ الفلسطينية لحل هذه المعضلة!

ثالثا – كشفت هذه الهبة مدى هشاشة المجتمع الإسرائيلي، الذي فقد توازنه النفسي والأخلاقي -كما أشارت الصحافة الإسرائيلية، وكشفت ما بدا عليه من عجز وشلل. ولعل حادثة محطة الباصات في بئر السبع، التي أفلحت وسائل الاتصال في نقلها للمشاهدين، كشفت أكثر من غيرها، عن جوانب متعددة لهذه الحالة. فحين أفلح ذلك الشاب البدوي مهند العقبي، من انتزاع سلاح أحد الجنود الإسرائيليين المتجمهرين في المحطة، راح بقية هؤلاء الجنود المدججين بالسلاح يتراكضون كالأرانب، بحثاً عن مخبأ لهم، ولم يتمكنوا من التغلب عليه إلا بعد فراغ ذخيرته. من جانب آخر، كشفت عملية تصفية المهاجر الأريتري، في الحادث نفسه، مدى سادية هذا المجتمع، إذ لم يكتف الجمهور الموجود بإطلاق النار عليه، بل راحوا يجهزون عليه بركلات أقدامهم؛ لكن مقتله بهذه السادية كشف في الوقت ذاته عمق العنصرية وتأصلها في هذا المجتمع، فقد جرى قتله والتشنيع به لمجرد الاعتقاد بأنه عربي!، والمفارقة هي في تكرار هذا الالتباس مع آخرين يهود.

أما نتنياهو فلم يكتف بالإعدامات الميدانية التي حرّض عليها، بوصفه زعيم عصابة من القتلة، وطالت ليس فقط الفتية الفاعلين، بل وسواهم الكثيرين لمجرد القتل والانتقام، ولا إجراءات العقاب الجماعي الأخرى.. بل لجأ، إلى جانب ذلك، إلى هوايته في تزييف التاريخ، واختار، هذه المرة، نقل المسؤولية عن المحرقة اليهودية خلال الحرب العالمية الثانية، ببساطة متناهية وبكلمة منه! من هتلر والنازية إلى الفلسطينيين، في شخص الحاج أمين الحسيني! وقد جاءه التفنيد القاطع على لسان المستشارة الألمانية، ميركل، صاحبة الشأن الأول – كما يقال.

لكن اللافت للنظر أن هذا التزييف أثار، بمستوى ابتذاله وسخفه، موجة من الاستنكار والشجب، وحتى السخرية في المعسكر الصهيوني نفسه. ولا يعود ذلك لواقع التزييف ذاته. فالتزييف شكّل، منذ البدء، أحد أعمدة الفكر الصهيوني، وإنما لموضوع هذا التزييف لأن له علاقة بالنازية تحديداً. ذلك أن إثارة هذا الموضوع البالغ الحساسية في تاريخ الصهيونية ينبش صحائف حالكة السواد من تاريخ تعاون الصهيونية مع النازية، تحرص الأولى كل الحرص على إخفائه في أعمق أعماق الأرض، كالفضلات النووية القاتلة. ومعروف أنه جرت كتابة مجلدات حول هذا التعاون المشين وأشكاله، وهي موثقة، وبعضها أعده كتّاب يهود.

وحين طرح نتنياهو شعار (يهودية إسرائيل)، كان يعبّر بذلك عن طموحه لإجراء تطهير عرقي جديد وشامل، هذه المرة، للفلسطينيين، ليس فقط داخل إسرائيل، بل وفي المناطق الفلسطينية المحتلة. وقد أكمل التعبير والإفصاح عن نواياه هذه عشية الانتخابات الأخيرة للكنيست الإسرائيلي، حين قطع على نفسه عهداً أمام الناخب الإسرائيلي بأن لا تقوم دولة فلسطينية مادام هو رئيس وزراء!. وليس من ترجمة لشعار يهودية إسرائيل ومنع قيام دولة فلسطينية في الأراضي التي احتلت في حزيران،1967 سوى أن فلسطين الانتدابية لا مكان فيها لدولتين: إما لنا أو لهم.

لكن لعل هبّة الفتية والصبية الحالية، والتي هي حلقة من مسلسل لن ينقطع، تذكّر نتنياهو وأضرابه بأن هذا الشعب الحي والصامد فوق أرضه، رغم كل جرائم المحتلين وممارساتهم الإرهابية، لن يستسلم ولن يكف عن الدفاع عن حقوقه القومية المعترف بها دولياً، وأن انفجاره في وجه محتليه، بين حين وحين، من حيث يتوقعون ولا يتوقعون، وبأشكال وأساليب لم يحسبوا لها الحساب، تؤكد أن طاقاته في هذا المجال بلا حدود، إلى أن يقع التغيير الجذري في المنطقة، الذي نرى ونسمع تباشيره في الرعود التي تجوب المنطقة، اليوم، رغم ما تسببه من خسائر ودمار. وقطعاً، فهذا التغيير لن يكون في صالح إسرائيل وحلفائها في المنطقة والعالم. وحينذاك، قد يكون متأخراً على نتنياهو وأضرابه إعادة النظر في مخططاتهم السالفة الذكر لتصفية القضية الفلسطينية العادلة.

العدد 1140 - 22/01/2025