صفراء ولونها فاقع
مثل الكثير من خريجي وخريجات الآداب، وجدت نفسي وزملائي صايعين ضايعين، نبحث عن أي عمل يجنبنا شماتة الحساد الذين استكثروا علينا شهاداتنا الجامعية، رغم أننا علقناها على الجدار – هذا بالنسبة للمتفوقين الفخورين منا – أما بقيتنا فقد حبسوها في (غرفة الفيران)… لذلك فقد كانت حماستنا عظيمة عندما اكتشفنا سر زميلتنا سميرة التي راح يظهر عليها الجخّ والرخ، بعد أن كانت تستدين أجرة الطريق من هذه وتلك، إذ اعترفت لنا أنها وجدت طريقها الى إحدى الصحف الكويتية المعروفة، وهي تكتب لها نوعاً من (الريبورتاجات) الاجتماعية الخفيفة، مقابل مبلغ نقدي جيد، يا للهولّ صحيفة خليجية مرة واحدة ونحن الذين لم نستطع الدخول إلى مكتب صحيفة من صحف المنظمات الشعبية التي لا يقرؤها أحد حتى! وأخبرتنا أننا نستطيع الكتابة فيها لكن المواضيع ستنشر باسم المكتب لا بأسمائنا، وما أهمية ذلك ما دامت الصحيفة غير مقروءة عندنا وما دمنا سنأخذ نقوداً مقابل عملنا؟ ثم أطلعتنا سميرة على نماذج من المواضيع التي نشرتها، ووجدنا أنها من النوع السخيف وليست من النوع الخفيف، فما سمته (ريبورتاج) هو عبارة عن عرض رأي لبعض الأشخاص حول موضوع تافه من نوع: أيهما تفضل المرأة الرجل بشوارب أو دون شوارب؟ وهل يحب الرجل المرأة بجوارب أو دون جوارب!؟ وشيء من هذا القبيل، سألناها: أليس هذا ما يقال عنه صحافة صفراء؟ فردت بحزم: صفراء أو برتقالي… المهم أن نستفيد، ثم إن هناك قراء فارغين يحبون هذه الأشياء. وبالفعل اقتنعنا بكلامها، ورحنا نبتكر مواضيع من هذا الطراز، لكن المشكلة أننا بصعوبة أنجزنا مواضيع قليلة، لأننا لا نستطيع كل يوم أن نجد أشخاصاً (فاضيين) مستعدين للإجابة عن أسئلة الريبورتاج، وتقديم صورهم الشخصية لنا لتدعيم الموضوع، فقد كان المطلوب نشر صور جذابة وخصوصاً لفتيات جميلات، وهكذا وجدنا أنفسنا ننحت في الصخر، بينما زميلتنا سميرة تنهل من بحر، إذ كانت تنشر موضوعاً جديداً كل يوم، ظننا أن وجودها مقيمة أبدية في المدينة الجامعية يساعدها من حيث وجود أعداد كبيرة من الطلبة حولها فتستفيد من آرائهم، فعملنا (كبسة) مفاجئة الى غرفتها هناك، ففوجئنا بها جالسة في السرير، تخترع المواضيع وتتخيل الشخصيات وتضع لها الأسماء الوهمية، ثم تجمع بعض الصور من فتيات الجامعة بذريعة أنها ستدبر لهن عرساناً! هذا هو الوضع إذاً… لا بأس، نحن نستطيع فعل ذلك أيضاً، وفعلاً صارت المسألة أسهل بكثير، فزاد عدد موضوعاتنا المنشورة، وما ساعدنا أننا تعاقدنا مع صاحب ستوديو في المنطقة، فصار يقدم لنا الصور القديمة التي عنده، وسارت الأمور على ما يرام، فصرنا نعتبر أنفسنا صحفيين، ثم خلا لنا الجو بعد أن طارت سميرة الى الكويت، ومن شدة إعجاب الإخوة الكويتيين بمواضيعها أخذوها لعندهم لتكتب لهم عن همومهم! صحيح أن بعض المصادفات المحرجة قد وقعت لكننا تجاوزناها بكل ثقة، كما حصل في إحدى المرات، وعندما كان بائع الفلافل أبو إبراهيم يلف سندويشة لأحد زبائنه لمح صورته في الجريدة وتحتها اسم شخص آخر على أساس أنه دكتور في علم النفس، يقدم رأيه في (الحب من أول نظرة)، طبعاً بدأ الشك في (شلة الصحافة) بالحارة، فحاولت صديقتي رائدة أن تقنعه بالقول (يخلق من الشبه أربعين) لم يقتنع وأكد لها أن البدلة في الصورة هي ذاتها بدلة عرسه، والصورة هي صورة دفتر العائلة، فاعتذرنا له، وأخذ هو الأمر بروح رياضية، على شرط أن نزوده بالصحف من أجل لف السندويش، طبعاً وافقنا، ولكن صرنا أكثر حرصاً.
مع مرور الأيام والسنين تفرقت الزميلات في بلاد الدنيا، وأغلبنا اقتنع أن بيع السندويش، والعمل على سيارة تكسي أفضل من العمل في صحافة من هذا النوع، فتجاوزنا هذه المرحلة ومضى كل في طريق، وانقطعت أخبار الكثيرين، حتى بدأت الأزمة في سورية، فعادت بعض الأسماء تلمع هنا وهناك، صديقتي رائدة هي الوحيدة التي بقيت من الشلة القديمة، وكانت تتابع أخبار البعض عن بعد، مرة أطلعتني في (النت) على صورة مؤثرة لطفلة يتيمة تقف وسط ركام بيتها المتهدم، قالت لي: أتعرفين من هذه البنت؟ قلت ببساطة: إنها إحدى ضحايا الأزمة، ردت علي: إنها ابنة زميلتنا سميرة… فصحت: كيف ماتت سميرة وتشردت ابنتها؟ فردت: سميرة لن تموت حالياً، فهي ما زالت تعيش في الخليج مع زوجها وابنتها هذه وبأحسن حال، وفهمك كفاية… أنسيت الصحافة البرتقالية؟