في شؤون البرد والحمّى

البرد والحمى عدوان لدودان لبني البشر، وبينهما (علاقة جدلية) على لغة بعض الساسة.

كلاهما يتغلغل في عظام الإنسان ويسكنها، ألم يقل المتنبي في وصف بديع لنوبات الحمى:

وزائرتي كأنّ بها حياء ..|.. فليس تزور إلا في الظلام

فرشتُ لها المطارف والحشايا ..|.. فعافتها وباتت في عظامي

وهذا التغلغل في العظام والتسلل يشبه فيما يشبه تغلغل بعض من أدمنوا تمسيح الجوخ في مراكز القرار بدولة الكونغو، وإفساد من تبقى على قيد النظافة والنزاهة من موظفي هذه الدولة المسكينة، التي لم يكفها غول الفساد والإفساد عبر تغلغل المذكورين والإمساك بمفاصل القرار، فابتليت بحرب أهلية ضروس لم تبق ولم تذر، وأفرزت طبقة جديدة أشرس و(أدقّ رقبة) من (طبقة المسّاحين)، هي طبقة تجار الحرب الذين لا يحللون ولا يحرمون مثل زملائهم في الطبقة الأولى، لكن الفرق بينهم وبين هؤلاء هو أنهم لا يخافون أحداً! ولا يعملون من تحت الطاولة، فهم يعملون علناً وعلى رؤوس الأشهاد، بل إنك مضطر لأن تشكرهم وتثني على حسن أخلاقهم ونخوتهم بعد أن يؤمنوا لك لتر المازوت مثلاً بثلاثة أضعاف سعره، لأنك ستموت برداً أنت وعيالك إن لم يتكرم عليك تاجر الأزمة ويؤمن لك لترات معدودة تعبر بها المنخفض القطبي المجرم الذي أضيف إلى قائمة أعداء الشعب، الشعب الكونغولي طبعاً..

ما علينا.. نعود إلى سيرة الشقيقين اللئيمين، البرد والحمى، المرتبطين بعلاقة جدلية، وكلاهما ينطبق عليهما قول الخليفة عمر بن الخطاب:

(اتقوا البرد فإنه سريع دخوله ، بطيء خروجه).

وهو ينطبق أيضاً على أشياء كثيرة، وحتى لا يذهب البعض بكلامنا بعيداً ويفسره تفسيرات تخدش الحياء العام، سأوضح ما أقصده من أشياء سريعة الدخول وبطيئة الخروج.

فالاحتلال مثلاً، يجد طرقاً سهلة غالباً للدخول، مستغلاً ظرفاً محلياً، إقليمياً، دولياً، ليدخل بسهولة وسلاسة وبأقل الأضرار، ثم (أعطنا عمراً) ليخرج، هكذا فعلت الصهيونية في فلسطين فأخذتها بسرعة وسهولة بفضل بسالة الأنظمة العربية ووعي الشعب والتآمر الدولي طبعاً، ولم تخرج منها حتى تاريخه.

المحتلون الفرنسيون الذي جاؤوا باسم الانتداب إلى بلادنا في مستهل القرن الفائت، دخلوا بسرعة رغم مأثرة ميسلون، ولم يخرجوا إلا بعد ضحايا وثورات دامت ستة وعشرين عاماً.

أما الاحتلال الأمريكي للعراق الذي جاء به حاكم مستبد وطاغية دفع جزءاً كبيراً من شعبه إلى طلب الخلاص ولو جاء من الشيطان بوش، وهو ما كان، فحلَّ محلّ استبداد صدام احتلال أمريكي مزمن لم يخرج إلا بعد أن صارت البلاد قاعاً صفصفاً، ضعيفة مفككة تزخر بالحروب والأحقاد. هكذا يفعل المستبدون ببلادهم حين يخيّرون شعوبهم بين شرّين: بقاؤهم على صدور الناس، أو احتلال هو أبشع بما لا يقاس، يدخل بسرعة ويسر ولا يخرج إلا بدماء ودموع ومآسٍ.

يبدو أن حديث السياسة يأخذنا كلما تحدثنا عن البرد، ملعونة هذه السياسة.

السوريون في موجة البرد الأخيرة (وسأسمح لنفسي بالتحدث عنهم ولمرة واحدة فقط) لم يعودوا يريدون سوى الدفء، الدفء الذي يأتي من أي طريقة، بالكهرباء في ساعات مجيئها المحدودة، بالمازوت الذي استطاع البعض القليل تأمين لترات معدودة منه عبر تجار الحرب، وبأسعار هدّت ميزانياتهم المهدودة أصلاً.

البعض الآخر لجأ إلى تحويل مدافىء المازوت إلى الحطب بسبب غلاء المدافىء الجديدة، وحين يعزّ الحطب يضعون فيها الألبسة القديمة والبلاستيك والورق والكرتون وكل ما هو قابل للاحتراق.

أما سكان الخيام والحدائق والأرصفة فلا لغة تحكي عنهم، في هذا البرد اللعين.

الآن هنا، أيها السوري.. هناك ملايين السوريين في العراء، لا يفكرون بالمازوت أو الكهرباء أو الغاز أو الحطب، يفكرون في فراش وأغطية ووسائد غير مبللة بالماء، يحلمون بسقف وجدران تقيهم وأطفالهم قبلهم لفحة الهواء القطبي البارد.

الثلج الذي كان فرحاً وبشارة مواسم خصب صار كفناً للكثيرين من أبناء هذا البلد.

ومن القرآن الكريم أختم سورة الغضب والحزن: (لا أقسم بهذا البلد، وأنت حلٌّ بهذا البلد).

أيها البرد!

العدد 1140 - 22/01/2025