بوح المفارقة

شاءت الأقدار أن تأتي العاصفة هذه المرة باسم مذكر صريح (يوهان)، وسيبحث كثيرون في دلالة الاسم، ولمَ قد غدا الاسم هذه المرة ذكورياً، فهل المسألة هي في التحقق من النسبة بين الذكورة والأنوثة، أم تأويل (حرب الطبيعة)؟!.

 وفي امتداح دفء قد أصبح مجازياً، فيما البرد الذي قهر الألمان يوماً قد أصبح هو حديث الناس، وكيف يواجه ذلك الخفيّ الذي نخر مخ العظام ولم يستكن ويترك ضحاياه لا يلوبون على شيء، وإنما قد يرسمون الدفء يوماً على بقية من جدار، أو يستدعونه من غائب الأحلام.

لقد أصبحنا كما يقال في مرحلة ما بعد (يوهان) وانتظار ما قد يأتي من عواصف لم يعد الاسم فيها مهماً بقدر ما يُنتظر من ماشاءته الطبيعة، فهي الأخرى يبدو أنها قد دخلت حرباً معلنة مع البشر لتتواتر تأويلاتهم وتنفتح حدوسهم على ما قد يأتي أو لا يأتي، وفي الوقت ذاته كان السيد (فالنتاين) هو الآخر من يجيء على عجل هذه الأيام يذهب في إثر ورود قد استعارها الشهداء، ولكن من ينقذ الموتى ومن ينقذ الأحياء؟ ومن يعشقون هم من يعيشون الحب كل يوم، أما المحرومون فهم من تاقوا إلى عيد يحيونه لمرة واحدة، وما بين مجاز العيد ومجاز الحرب ومجاز البرد، أصبحت الحياة تتفرج علينا، حسبها سوريالية إضافية يكتبها القدر وحده، ويبرع في إخراجها. ولكم أن تتصوروا كم من الممثلين الذي دُفعوا إلى الخشبة ليتقمصوا أدواراً ليست لهم، وتحترفهم على الخشبة ذاتها نهايات مخاتلة هي أشبه بالبدايات التي لا تنتهي، وفي (عجقة) العيد ينقسم الناس إلى البحث في حكاية السيد (فالنتاين) وبعضهم من يتذكر وسط عماء الحرب وطغيان الحقد، أن لقلبه نبضاً مازال قائماً، وأن لأيامه طعماً آخر، طعم ما يألفه القلب وسط ازدحام الأماني والخوف والتشبث بالحياة، فثمة مفارقات والفرق فيها أن غير مؤلف قد كتبها، هو تأليف جماعي خرج من فردية مؤلف وحيد، وعلى الخشبة ذاتها أيضاً ينجح القدر كعادته دائماً في أن يؤلف فيما بين الأشياء، لتغدو الروايات هي الواقع الجديد الذي تتطيّر من واقع مازال يتغذى بوقائعه المستمرة.

كيف تكون مفارقاً في لحظة تتشابه فيها الأشياء، بحسب رواية جميلة من كنوز الأدب العالمي ل (تشينبي)، اسمها «الأشياء تتداعى» تماماً كما تتداعى أشياؤنا ونجهد في إيجاد رابطها الضائع أو المضيع، وحالما نعثر عليه نجدنا قد أضعناه مرة أخرى، وهكذا هي متوالية الأيام والأرقام والأحلام، التي تحملنا إلى شاطئ حكايتنا الأولى، لنظل على سطحها توقاً إلى أفق جديد.

تساءل الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو يوماً: ما اسم الوردة؟ وعليه نتساءل الآن: ما اسم أيامنا هذه؟ لا سيما في ازدحام الوقت الذي يبدو أنه لا ينتظر أحداً، وفي ازدحام الكلمات التي تتوسل اللغة أن تعثر على دلالتها، ما تبقى لنا إذناً، أن نظل ننسج لعراء الحلم ثياباً جديدة مطرزة بآلاف الاحتمالات، ولم يعد الاسم مهماً لأنه أصبح أسماءنا جميعاً، وعندما تجد المفارقة اسمها ستكون مفارقة جديدة، هي حال من يتوسل تأويل لحظته الآن، ولطالما قيل: لكل امرئ من اسمه نصيب، لكن ما هو نصيب النصيب إن لم يكن ما يفعله بنا هو مجاز الحكاية ولا شيء آخر.

ونتساءل من جديد: هل سيصبح ما كتبناه كناية عن ظلال هاربة، إذناً، فلتذهب الكتب إلى النسيان، يقول متشائم. وفي المقابل سيصبح ما كتبناه وثيقة أخرى تصارع النسيان، يقول متفائل….

وما بينهما يقف الزمن متفرجاً تارة وساخراً أحياناً، من أنه هو البطل الإضافي للحكاية، فظاهرها أنهم يودون صداقته ليأمنوا جل شروره، وباطنها كيف لهم ألا يخاصموه، كي لا يذهب بعيداً بهم، وتتشظى أسماؤهم كما تتشظى يومياتهم؟ ذلك هو شقاء معرفة لا قانون لها إن لم يكن النسيان الأقل هو قانونها الذهبي، شقاء كلمة لم تعد تكفيها سخرية أنها من تخاتل كاتبها فتنزلق للقاع، وحسبه أنه يقبض عليها كسمكة يائسة، لكنها تظل في الماء، لا هو يقدر على الغوص، ولا هي تذهب إلى الشاطئ مختارة لتكون لقمته وشبع حكايته.

العدد 1140 - 22/01/2025