الموت ضحكاً !
ما علاقة الضحك بالموت؟ لعلنا نسمع على سبيل التندر وما يتواتر بالأحاديث اليومية: سوف نميتك من الضحك، وعلى الرغم من أن ثمة التباساً ما بين الدلالتين، أي الضحك أو الموت، إلا أن الضحك يبدو هنا طريقة للحياة أكثر منه استدعاء للموت، وعليه تواترت عناوين روايات بعينها: حجر الضحك-الضحك والنسيان.. وهكذا، لعلنا حينما نقف على فقه الضحكة ليس بالضرورة هنا أن نُميت مَنْ نضحكهم، بل هو مجاز إضافي سيذهب إلى شدة الضحك من مفارقات واقع يومي تكاد لا تميز بين ما يضحكنا ومالا يضحكنا!.
يروي أمبرتو إيكو في روايته الكبيرة (اسم الوردة) أن الضحك في القرون الوسطى هو من الشيطان لأنه يحرّر الإنسان من الخوف، ولأن الضحك يستجلب الشيطان فكم ينطوي استحضاره على مفارقات إضافية، لا سيما في لحظتنا هذه ذلك أن كل من يتوسلون أن يضحكوا وأن يُضْحِكوا هم من يخاتلون شيطان التفاصيل ليبثوا في اللحظة سخرية طليقة بما يكفي لأن يكون الضحك من الأعماق حدّ البكاء، لا لأن شر البلية ما يضحك، وليس لأننا في نسياننا لطرفة ما نقع على طرفة جديدة، بل لأن ما نقصده بالضحك هو (الموت) الأكثر شبهة بالحياة، حتى نتحرر من الخوف ومن القلق ومن النسيان، وأن تكون ذاتنا في نسيج ما يضحكنا أكثر اطمئناناً إلى أن الآخر الذي أردنا له أن ينشرح صدره هو ذاتنا الشقية التي لا تعللها كل أسفار الضحك المعاصر الأكثر قدرة على منحنا في جانب ما قلقاً داخلياً ليس بوسع أحد تفسيره حتى الآن.
ماذا لو أن روائياً بنى روايته كعمارة على الضحك فحسب، وأصبح الضحك غاية لا وسيلة، فهل نضحك على الدوام دون التعلل بالسبب فقط ننتبه إلى السياق والشكل الذي جاءت به الرواية. ولعلنا نتساءل أيضاً في مستوى آخر: ما الذي لا يضحكنا، في انتظار بعض النور لنقرأ أو نعمل شيئاً، والظلام أصبح كتاباً مفتوحاً نتشارك سطوره، ويندلق لا وعينا الجمعي في استحضار حكايات نتسلى بها ريثما تأتي الكهرباء.
في الغرب ابتدعوا أمكنة خاصة لينفجر الجمهور بالضحك كل على طريقته، وبأدائه الأكثر خصوصية عن سواه، لكن بالمحصلة الكل يضحك على شيء يخصه، ويستطيع أن يكون بطله للحظة، ومنهم من يكتفي بالطريقة فقط، وآخرون يضحكون ارتداداً لأن العالم الذي منحهم هذه الدقائق لن يسألهم -بطبيعة الحال- علام يضحكون! ولأنه منحهم هذه البرهة الساخرة من الزمن والأشياء، وربما من ذواتهم فهو شريكهم في شيء مقصود، ليتحرروا مما هو أبعد من الخوف وليكتشفوا أن العالم هو على جرفٍ هاوٍ، ربما ينزلق في أي لحظة، وبأنهم يستوفون من الأقدار العابثة بهم كل حقوقهم، فيما تستوفي الأقدار منا في عالمنا الآخر كل حقوقنا. وكثيراً ما تمر بشارع دمشقي ويستوقفك رجل يضحك، فبدل أن تتساءل عما يضحكه، تراك تشاركه من حيث لا تدري ضحكه المشروع، وتكتفي بجملة واحدة: لقد جُنّ العالم، فهل معادل الجنون أن نضحك أيضاً، وأن نقول لمن يضحكنا لقد تسببت بعيشنا الإضافي، وما شأن أبطال الروايات الضاحكون سوى هواجسنا -نحن- التي نطمئن إليها حينما تفاجئ وعينا بأن لا شيء يبدأ ولا شيء ينتهي في دراما طليقة مازالت اسمها الحياة، ومازال قدر صانعيها أنهم لم يريدوا للحواس أن تتنفس وأن تتبادل بهجة ولو عابرة لأن (الكائن الذي لا تحتمل خفّته)- نسبة لميلان كونديرا صاحب هذه الرواية – قد أصبح عبئاً على واقع أكثر تجهماً وأكثر ميلاً لانتحارنا ضحكاً، وربما موتنا كذلك؟!.