وسلامي لكم
ليس لي متعة خارج الكون، بعد أن أوصدت الريح الباب خلفي، وبعثرتني في موقد الليل على شهقة جمرة تحنّ كثيراً إلى ثرثراتي الحزينة العابرة، التي عاشت تحوم حول موقد الجمر بذكريات ما مضى ستين عاماً وأكثر.. بين العتمة وفوضى الحواس التي خلفها غرباء المنافي هنا!، فكيف لي بالغناء، على ما استبد بي من حنين؟! وكيف لي بالبكاء، على ما استبد بي من حنين؟! وكيف تقذفني صبابات الذين أحبهم بين اثنتين؟!
بين التي قاسمتني شهقة جمر الذكريات برفّة شالها البعيد، وهو يومي باللهفة الموجعة، والتي يلوّح الكفان بها، على امتداد سياج الروح المتعب من كثرة اشتهائه لصبابات العمر الموجعة! وآهة الموقد الذي أتعبه الطواف في مساءات التذكر، وحضرة الغياب الذي غدا سنونوة الفجر، تمر بنا طوافة على غرباء مواقد الليل الحزينة، حاملة لنا سلام الغائبين، في المحطات التي لم يصلها قطار عابر، والأرصفة التي خلت من مسافري الشمال البعيد.. شمال الصقيع، والزمهرير، والليالي الباردة! آه.. إنه السنونو المبكر في الحضور، يشاركني ترانيم ولهي الذي يسوقه ناي الفجر مع السنونو المسافر إليك بما تشتهين، وما أشتهيه!
وأصرخ فيك: على أي جنب تميلين نحوي؟! فإن كثرة الميل إلى جانب القلب، توشك أن تلقي برعشة النبض فيّ إلى غيهب الليالي الباردة، والنائي جداً، كظلك النائي بعيداً كالمستحيل، الذي يتملكني بدفئه الجارح كلما مسني طائف من هواك الكرملي، الذي يحيط بي كما يحيط الخاتم بالإصبع، وكمايحيط السوار بمعصم اليد، التي أتعبها التلويح للعابرين، حيث يمرون، ويغادرون، كسحابة صيف عابرة! يلقون سلاماً، ودمعة، وابتسامة هفهافة كالنسيم، ثم يرحلون تاركين خلفهم وجوهاً غارقة بالصمت والأسى، وذكريات محفوفة بوجع التذكر، وآهاً لا تغيب!
وحدها وردة الروح على سياج انتظارها، ما تزال بانتظار طيور العودة.. كلما حوّمت على أسلاك الموت الشائكة ظلالهم، راحت تضمها بوجع اللهفة الحارقة، والدمعة المنكسرة على السياج، كما السنبلة التي تضمّ عبق ترابها بوجدها المكابر المتعب! لهفي عليك أيتها المسكونة بي كوجع انتظاري إليك!
وحدك تكابدين، ووحدي أكابد، والذين غادرونا هم الآن وحشة ما نكابد، وقسوة ما يكابدون!
بعدهم.. لا قطار عابر، ولا أيد تلوح للغائبين، ولاشالات ترف للموجعين على أرصفة انتظار العائدين! كأن صافرات القطارات البعيدة وحدها ما تبقى لنا فوق مقاعد محطات المغادرين!
صوتك الندي كعشب البراري، ما يزال يحمل طعم الزعتر، ونكهة البرتقال، وزيزفون الأرض! معي، وحولي، وظلك بامتداد خطا الراحلين إلى حيث يرحلون، والخيام حيث تقذفها ريح المنافي، ولكنك وحدك الباقية في رعشات القلوب، ووجدان التراب المسافر معنا إلى حيث غربة أخرى، ومنفى آخر، وعواصم بتعداد المنافي المبثوثة بنا، ومن حولنا، ومع هذا، فأنت وحدك النجمة المتوهجة في الزحام الرمادي الباهت كأوراق أيلول الصفراء.
وما يزال الصوت ندياً، من ستين عاماً وأكثر.. إلى بطاح الكرمل والجليل، إلى الطيور المهاجرة باتجاه بيسان، وحيفا، وصفد، والناصرة، إلى عشبة تمتد من اليرموك والجولان، وجبل الشيخ، إلى يافا وحيفا وعكا، إلى غزة ونابلس، ورفح وعسقلان، إليكم أهلنا حيث أنتم، وإلى الدار في صمودها على عشقها وانتظارها.
للغائبين.. إنه الصوت يصدح.. وسلامي لكم، يا أهل الأرض المحتلة!