لا تفترس القلبَ يا آذار

في عبق كرسيّه الخاوي تجثو: وجنتي المسها.. بنيّ، دعني أتأكد أنك هنا. يخبرونني أن الحرب غيَّبتكَ! لا، كيف تفعل وأنتَ طفل الصنوبر..؟ سريرك هو من كبُر وقشّر عنه السياج. قبل أن تدغدغ مسامعك أغنيات العشق، قبل أن يغلف الجوري المواعيد. قبل أن تعلّق بذلتك، تكحلُ بها غيمات المكان. للغرفة اليوم جدران أكثر، نسيتَ أن ترفع عنها لوحاتك الصغيرة كما أوصيتك، قلتُ لكَ: لا أريد سواكَ هنا. ما ذا أفعل بالرسوم والحروف؟ لا تستحضرك أي صورة، هل تفعل عادةً الأوراق؟

البيتُ مرتب إلى حدّ السأم، غريب عليّ. لمَ تغيّر عاداتك بنيّ؟ هل تعتقد أن الفوضى تعنيني، الغبار، الوسائد المبعثرة؟! ضجيج أصدقائك، جدالكم شتائمكم، هل تظن أنها لا تزال تزعجني؟ تعال نفرش على البلاطات الباردة أحاديثنا المؤجلة. نغني، يرتفع صوت اللحن ويختم فم البنادق. لن أغضب هذه المرة لأنك أشعلتَ الشمعة الأخيرة قبل المساء، صوتكَ يضيء وحشة المكان. لماذا تصبح العتبات، بنيّ، منبري اليتيم، قلبي المطوق بالأغنيات، المفرغ من الكلمات؟! كيفَ لا يقتلني شوقي أمام مقبضِ الباب الموصد، يشي بك خلفه، لمَ لا تفتح لي؟!

بخطوات تتعثر على الدرج، كنتَ تقطف الياسمين وتجرب، فاشلاً، كل وسائل الهدوء لتضعها قرب وسادتي، وجانب السرير أنظرُ وجهكَ يتورد حباً، وتمتد يدكَ من الوجود لتخطفني: (هاتِ يدكِ أمي لنسامر شرفةً لا تبتلع زوارها، دعينا نراقص النجوم المتناثرة حولنا وفي أول الدرب العائد إلينا، نزرع هذه الضحكة!)، وبطقوس من بخورٍ وشموع، في محراب البيت القديم تبتسمُ لي بكامل بهائك، بذاكرةٍ لا تحملُ ضباب قدِّها، تنثر بعيداً رمادها.

و لأننا اعتدنا خذلان المواعيد، هاهي ذي وحدها بغرفتكَ الحرب تعبقُ بالمكان. وإليّ في عالمي القصيّ، يصل ضجيجها، وعبر الدروب المحترقةِ إلينا، تتعالى ضحكتها أرجوانية الصدى.

حارات القادمِ آمنة.. آمنة، هكذا كنتَ تخبرني. كيف عرفت وكل رجاء يخبو وكل سماء تعلو. الحروفُ مبعثرةً تلوذ بأحلامنا المستحيلة. ربما، صغيري، أجنحتنا المصابةُ بالنضوج لا تجيدُ التحليق بعيداً عن الجرفِ المنحدر، إلينا حيث ننتظرنا هناك!

كفاكَ افتراساً للقلب يا آذار..

امسح عني أغنيات الحزن، أحضره هنا! إلى ذراعيّ تعال صغيري، ابتسامتي التي تنظر إليها بارتياب، ليستْ ألماً مكتوم الأنفاس.

معاً نعلق زينات العيد، معاً نساهر ذكرياتنا وأسرارنا. ولن يفعلها ضجيج الشوق والوحدة ويمزقني حتى القلب كما كل مرة.

العدد 1140 - 22/01/2025